أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية بخسارة الولايات المتحدة لمزيد من نفوذها في الشرق الأوسط لصالح دول أخرى فتراجع واشنطن عن التزامها الأمني للمنطقة قبل الحرب تغير بعد بدؤها، حيث أُجبرت على إعادة تقييم سياستها تجاه أمن دول الخليج خشية من تمدد النفوذين الروسي والصيني فعززت أسطولها البحري الخامس بإرسال قوة عسكرية قوامها 3000 بحري أمريكي، ضمن خطة لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.
وهكذا فإن عدم اتخاذ واشنطن لإجراءات رادعة للتهديدات الأمنية بالمنطقة، وتقليص حجم قواتها العسكرية لأجل زيادة أنشطتها الاستراتيجية في آسيا لمواجهة النفوذ الصيني، ترتب عليها جملة مواقف لقادة دول المنطقة، تتلخص في تراجع مستوى الثقة بوعود واشنطن، وبالتالي تبنيهم لسياسات متوازنة مع الفاعلين الدوليين المُتصدرين لمشهد الصراع: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الإتحاد الأوروبي.
كما إن اكتساب المؤسسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية العربية للخبرة في إدارة الأزمات الإقليمية طوال السنوات الماضية والتعامل مع ملفات ساخنة في العراق وسوريا واليمن، وليبيا، ولبنان، وفلسطين، وتداعيات النووي الإيراني، أدى لتعزيز ثقة القادة الإقليميين بقدرتهم على إنتاج سياسات وطنية وإقليمية أكثر حيادية، تقوم على أساس مبدأ تبادل المنفعة واحترام سيادة الدول ومصالحها الخاصة.
فرص صنعتها الحرب!
سرعت الحرب الروسية الأوكرانية بإيجاد صورة لمشهد في الشرق الأوسط، وتحديداً في دول الخليج العربي، مغايرة عن الصورة النمطية المأخوذة في الأذهان بتبعية المنطقة للولايات المتحدة، وهو مُتغير جديد تمثل بولادة هوية جيوسياسية فاعلة لدول الخليج العربي. حيث إن تنافس كلا من واشنطن وبكين وموسكو والإتحاد الأوروبي، عزز من حاجة كل طرف منهم لتوطيد علاقاته مع الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط، إما للحفاظ على حجم نفوذ ومستوى شراكة كالسابق مثل: الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، أو لتغيير شكل معادلة القوة (زيادة التأثير والنفوذ) بتطوير مستوى العلاقة إلى شراكة إستراتيجية كالصين وروسيا. ويمكن استنتاج اهداف سياسات الأطراف الدولية تجاه الشرق الأوسط وتطور مواقفها على النحو التالي:
الولايات المتحدة
في ظل المنافسة العالمية ستسعى الولايات المتحدة للحفاظ على أكبر قدر من نفوذها في الشرق الأوسط، وأن تبقى لاعباً دولياً رئيسياً في المنطقة، ومثلما واجهت نفوذ الاتحاد السوفيتي في السابق، وأبعدت الصين عن التحالف مع السوفييت ضدها خلال الحرب الباردة، فواشنطن تسعى مرة أخرى لتقليص نفوذ روسيا دولياً والحد من تأثيرها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
تجنب الولايات المتحدة للصدام المباشر مع الصين سيكون بقبولها للصين كمنافس عالمي، تتوصل معه على صيغة تفاهم على أساس تحديد مناطق النفوذ وتقاسم الأدوار بينهما في العالم، وفي تنافسها ذاك، ستستخدم واشنطن أدوات ناعمة وعلاقات مع أطراف محلية وإقليمية فاعلة سياسيا وميدانيا، في الدول غير المستقرة والهشة أمنيا واقتصاديا وسياسيا، وبينما ستتبع أسلوبها المرن والناعم لمواجهة نفوذ الصين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أنها ستكون أكثر شدة وخشونة لمواجهة مصالح ونفوذ روسيا، فعلى المستوى الإقليمي ايضاً، ستزيد واشنطن من إجراءاتها لتقليص النفوذ الروسي في سوريا، وكذلك النفوذ الإيراني في العراق وسوريا واستهداف القيادات الميدانية للجماعات المسلحة الموالية لطهران. ومن المحتمل ايضاً، أنها ستتخذ مواقف سياسية تدعو فيها للتهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتكون أقل تشدداً بدعم السياسات التصعيدية تجاه الفلسطينيين، ولكن مع التمسك بحماية أمن إسرائيل في المنطقة.
الاتحاد الأوروبي
للاتحاد الأوروبي مصالح استراتيجية واسعة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مجالات الطاقة والامن والتجارة، تضاعفت أهميتها بعد حرب أوكرانيا، خاصة فيما يتعلق بالطاقة، فهي ركيزة رئيسية من ركائز الامن القومي للاتحاد الأوروبي. وعلى مستوى السياسة الخارجية، ينتج الإتحاد الأوروبي إستراتيجيات وسياسات للتعامل مع القضايا والشؤون في الدول الأخرى، حيث تعمل دول الإتحاد الأوروبي كمجموعة واحدة متماسكة، يُمارس أعضاءها أدوار ومهام وظيفية محددة لتحقيق الأهداف الموضوعة إستراتيجيا.
وبما أن الحرب الروسية على أوكرانيا شكلت تهديداً مباشراً لأمن الإتحاد الأوروبي وتحدياً مصيرياً لمستقبل روسيا في العالم، فإن أطراف الحرب بدأت توسيع ساحات الصراع والتنافس عالمياً، مثلما حدث في النيجر والجابون، ومن المتوقع ايضاً حدوث سيناريوهات مشابه في دول أفريقية ومناطق أخرى من العالم، فخسارة فرنسا لنفوذها في أفريقيا لصالح روسيا والصين سينعكس على نفوذ الاتحاد الأوروبي في القارة السمراء والمناطق المتصلة بها سياسيا واقتصاديا وامنيا، وبالتالي فإن الأوربيين سيلجؤون إلى اعتماد سياسات أكثر توازن واستقلالية عن واشنطن تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك لضمان تدفق الطاقة لأوروبا والتعاون مع الأطراف الإقليمية في قضايا التجارة بين الإتحاد والأسواق الاستهلاكية، والتعاون الأمني للحد من موجات الهجرة غير الشرعية، ومكافحة الإرهاب والتطرف.
يضاف إلى ذلك، أن تأثير الإتحاد الأوروبي في قضايا ومسائل إقليمية سيتراجع فيعتمدون بشكل أكبر على الأدوات الناعمة والعلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول المنطقة، بينما ينخرطون أكثر في حرب طويلة مع روسيا تتطلب منهم الحفاظ على تحالفاتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة عالمياً.
الصين
سعي الصين للزعامة عالمياً يدفعها لإنتاج سياسات إستراتيجية لملء فراغات أوجدها تراجع الدور الأميركي وتضاءل نفوذ واشنطن، سواء في الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى من العالم، وتتمثل الأهداف الاستراتيجية للصين بضمان سد حاجتها من الطاقة عبر شراكات إستراتيجية مع الدول المُنتجة للنفط والغاز، وتنويع مصادر واردات الطاقة، واستخدام عملتها النقدية “اليوان” في معاملات النفط والغاز والتجارة، وكذلك ضمان تدفق الاستثمارات الصينية إلى الدول المدرجة ضمن خطة المشروع الاستراتيجي ” الحزام والطريق”.
وبالتالي، تجد الصين ضرورة بممارسة دور الوسيط في قضايا إقليمية مثل: العلاقة السعودية – الإيرانية، القضية الفلسطينية، مدفوعة بعلاقاتها الجيدة مع الأطراف الإقليمية المعنية، ويبدو أنها تميل لاستخدام أدواتها الاقتصادية وثقلها السياسي لتطبيق أهدافها فالصين تعد شريكا اقتصاديا وتجاريا رئيسيا لدول الخليج العربي وإيران، ولها استثمارات ضخمة في إسرائيل، وهي القوة العظمى الأمثل للدول المتضررة جراء الحروب مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا، لأن استثماراتها تقوم على أساس مساعدة الدول في إعادة الاعمار وإنشاء البنى التحتية للمدن، وتقديم القروض لتخطي الأزمات المالية.
والصين بالفعل قد نجحت بوساطتها بين الرياض وطهران فتوصل البلدان لاتفاق على تطبيع العلاقات بينهما، وكذلك أعلنت رغبتها التوسط في محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى حل دائم بين الطرفين.
روسيا
يتطلع الروس لإحياء نفوذهم الجيوسياسي والإستراتيجي في المجال الحيوي السوفيتي السابق، باستخدام الطاقة والاقتصاد والتجارة والمواقف السياسية من خلال الأمم المتحدة ومجلس الامن، والقوة العسكرية إذا تطلب الأمر ذلك. وبما ان روسيا تعتمد على الطاقة كأداة رئيسية في سعيها ذاك، فإن استمرارية وصولها للأسواق والتعاون مع دول الخليج العربي في منطقة البلدان المُصدرة للطاقة (أوبك) بشأن الأسعار والإنتاج، يعتبر من الأولويات بالنسبة لموسكو. بالإضافة إلى تعميق علاقاتها الاستراتيجية مع إيران والتي شهدت تطوراً ملحوظاً خلال الحرب على أوكرانيا، وكذلك العلاقة مع تركيا ايضاً، رغم أن أنقرة اتبعت سياسة دولية متوازنة حافظت فيها على كونها عضواً بالناتو من جهة، وعلاقتها مع روسيا من جهة أخرى.
وفي سياق الدعم الروسي لأنقرة وطهران ودمشق، واستغلال كلا من تركيا وإيران لفرص صنعتها الحرب في أوكرانيا، لأجل تحقيق مكاسب جيوسياسية وأمنية لتصفية المعارضين الأكراد على الحدود مع البلدين، فمن المحتمل أن تشهد المرحلة القادمة مزيداً من التصعيد الأمني والعسكري ضد الأكراد في المنطقة بتوافق مشترك بين العواصم الإقليمية الثلاث ودعم روسي، بالمقابل سيتلقى الأكراد في سوريا والعراق دعما اميركيا، وهو سيناريو سيدفع بالملف الكردي الى واجهة الاحداث الساخنة إقليميا، وضمن حالة التنافس الأميركي – الروسي.
كما من المرجح أن تسعى موسكو لزيادة تأثيرها ونفوذها في سوريا والعراق وليبيا وفلسطين، وربما ستتخذ مواقف داعمة للصين فيما يتعلق بالملف الفلسطيني – الإسرائيلي، إذا ما اختارت بكين تطوير دورها في هذا الملف على حساب الفشل الأمريكي فيه.
اقرأ ايضاً:
هل تحل الشركات الاستثمارية الصينية محل القواعد العسكرية الامريكية في العالم؟
الدور الاقتصادي للصين وسط حرب أوكرانيا وتداعياته على الولايات المتحدة
العودة السوفياتية: جزيرة العالم والصين
سياسة متوازنة
تُدرك دول الشرق الأوسط حساسية موقعها الجغرافي ودورها الاستراتيجي لإنتاج الطاقة وتعزيز الامن البحري للعالم، مما دفع بها لاعتماد سياسات متوازنة مع جميع الأطراف المنخرطة بالحرب الدولية، فعلى سبيل المثال: دعمت معظم دول الشرق الأوسط قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، والقرار الرافض لضم أجزاء من أوكرانيا لروسيا، وفي نفس الوقت أمتنعت غالبية دول المنطقة عن تأييد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وبينما رفضت كلا من السعودية والإمارات ومصر وتركيا، عزل موسكو اقتصادياً، فدول الخليج العربي أكدت التزامها بسياسات أوبك بلس، ورفضها مطالب واشنطن بزيادة إنتاج الطاقة بعد فرض عقوبات على الغاز الروسي.
بالإضافة إلى جهود الوساطة التي تقوم بها دول إقليمية بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب، فتركيا ” الدولة العضو بالناتو” كانت من أوائل الدول التي عرضت وساطتها، وكذلك المملكة العربية السعودية التي عقدت مؤتمراً دوليا في جدة بمشاركة ممثلين من 30 دولة.
وعلى هذا الأساس تشترك دول المنطقة برؤية تقوم على أساس التهدئة بالمنطقة وتفعيل الدبلوماسية واستخدام الأدوات الاقتصادية والتقارب بين المواقف السياسية لمواجهة تداعيات الحرب الأوكرانية. ومع ذلك فإن تشابك الاحداث الدولية وتسارعها يدفع بالأطراف الفاعلة إلى اغتنام الفرص وتوظيفها من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية في ملفات إقليمية مفتوحة.
تنويع الشراكات
في خضم الحرب الجارية تسعى الأطراف الفاعلة إقليميا للحفاظ على التوازن في علاقاتها الدولية من خلال تنويع الشراكات مع مختلف الأطراف الدولية. ففي الوقت الذي تحافظ فيه الدول العربية الخليجية وتركيا على مصالحها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب، عمقت علاقاتها الاستراتيجية مع الصين أيضا، فقد احتضنت العاصمة السعودية الرياض القمة العربية – الصينية، بمشاركة الرئيس الصيني وقادة الدول العربية، وعلى أثر تطور العلاقات السعودية – الصينية عبر شراكة كانت بدايتها منذ عام 2016، وقعت الرياض مع بكين اتفاقية ثنائية للشراكة الاستراتيجية الشاملة، بينما وقعت دولة قطر، اتفاقية طويلة الأمد مع الصين لتزويدها بالغاز الطبيعي المسال لمدة 27 عاماً، ووصفت بأنها الأطول من نوعها في تاريخ صفقات الغاز بسوق الطاقة في العالم، وكانت الدوحة قد وقعت مع الصين اتفاقية مماثلة في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي.
بالإضافة إلى انضمام كلا من السعودية والامارات ومصر وإيران لمجموعة “بريكس” المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بعضوية كاملة ستدخل حيز التنفيذ خلال عام 2024. وهكذا فإن الدول الإقليمية الفاعلة تعتمد على تنويع شراكاتها الدولية لتحقيق مكاسب جيوسياسية وزيادة مستوى تمثيلها ونفوذها الدولي.