تحتل كلا من الولايات المتحدة والصين صدارة العالم في مجال الاقتصاد والصناعات التكنلوجية حيث يمثلان معاً ما يصل إلى 40% من الناتج العالمي، وعلى هذا الأساس تعتبر الولايات المتحدة الصين منافسها الإستراتيجي الرئيسي في العالم، في حين تنظر الصين الى الولايات المتحدة على أنها تشكل تهديدا رئيسيا لمصالحها عالمياً. وعلى الرغم من ذلك لا يرغبان في قطع علاقاتهما الاقتصادية تجنبا لعواقب كارثية، حيث أكدت وزيرة الخزانة الامريكية جانيت يلين خلال زيارتها إلى بكين على ان فصل أكبر اقتصادين في العالم سيكون من المستحيل عمليا القيام به.
ورغم ذلك تشعر الولايات المتحدة بالقلق من النفوذ الصيني المتزايد باستخدامها لشركات واستثمارات في الخارج، وكذلك الزيادة الملحوظة باعتماد الأسواق الأجنبية على الصين، بما فيها السوق الامريكية، فخلال الأشهر 11 الأولى من عام 2019 صدرت الصين سلع ومنتجات تجارية للولايات المتحدة بقيمة 418 مليار دولار، مقابل تلقيها صادرات أمريكية قيمتها 98 ملياراً.
وحتى بعد جائحة كوفيد-19 يؤشر الميزان التجاري بين البلدين للعام 2022 إلى وجود حالة عجز في الجانب الأمريكي، حيث بلغت صادرات الصين للولايات المتحدة 536 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات الامريكية للصين ما قيمته 153 مليار أمريكي.
ويمكن القول إن مواجهة النفوذ الاقتصادي للصين وفرض قيود عليه يعتبر من قضايا السياسة الخارجية التي يتفق عليها الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويعتبرانه قضية أمن قومي إستراتيجي ومن أولويات الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض.
وعلى الجانب الاخر، تعتبر الصين تلك المواقف بأنها مدعومة من المجتمع الاستراتيجي الأمريكي بشكل عام، ويتضح ذلك من خلال المواقف الرسميةومنها على سبيل المثال: فرض إدارة ترمب عام 2019 تعريفة جمركية على الصادرات الصينية، وقيود على سلع ومنتجات صينية، وهي سياسة تبنتها إدارة بايدن أيضاً.
ورغم ان تلك القيود قد شملت دول أخرى ايضاً، إلا أن الصين كان لها النصيب الأكبر من التوجه الأميركي، خاصة وأنها مُتهمة بالعمل على إضعاف عملتها المالية “الرنمينبي”بشكل مصطنع لجعل منتجاتها أرخص للبيع خارجيا، وأنها تمارس التجسس تحت غطاء شركاتها التجارية في الخارج.
حروب تجارة صناعة المستقبل!
وفي إطار حرب تجارة التكنلوجيا المستعرة بين البلدين منذ عام 2019 استخدمت واشنطن القوائم السوداء التجارية لفرض قيودا على الصين لعزلها عن المكونات التكنلوجية الرئيسية وأشباه الموصلات أو الرقائق.
ففي أكتوبر عام 2022 حظرت إدارة الرئيس بايدن تصدير رقائق الحاسوب الأكثر تقدماً إلى الصين، وكذلك في أغسطس 2023 فرضت قيوداً جديدة على استثمارات أميركية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة الحسّاسة في الصين، واحتجت بكين رسمياً على ذلك.
ورداً على سياسات التضييق الامريكية التي أعاقت جهود الصين في تطوير الذكاء الاصطناعي وأنواع أخرى من الحوسبة المتقدمة فقد أصدرت بكين قانونا جديدا لمكافحة التجسس يعامل أبحاث السوق الروتينية على أنها تجسس.
بالإضافة إلى فرضها قيود على صادرات الغاليوم والجرمانيوم، حيث تنتج ما يصل الى 60% من الجرومانيوم في العالم و80% من الغاليوم، وهما معدنان لازمان لإنتاج الالكترونيات وأشباه الموصلات، ويستخدمان في منتجات الطاقة الشمسية والالياف الضوئية وفي تطبيقات عسكرية وفضائية، وأوضحت وزارة التجارة الصينية في بيانها إن اللوائح الجديدة ستلزم مُصدري الغاليوم والجرمانيوم بالحصول على ترخيص لشحن المعادن، لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
هل الاقتصاد غطاءً لهيمنة الصين؟
توجه أصابع الاتهام للصين من قبل المسؤولين الأمريكيين ووسائل الاعلام الغربية بأنها تتبع نهجا مدروسا لنشر نفوذها السياسي والعسكري من خلال شركاتها التجارية واستثماراتها في دول آسيوية وأوروبية وأفريقية.
وكذلك فالصين تتهم ايضاً، أنها تستخدم برنامج الاقراض لتوريط الدول النامية، حيث قدمت قروضا مالية زادت عن 500 مليار دولار، مما جعلها واحدة من أكبر الدائنين في العالم. الأمر الذي زاد من قلق واشنطن، وبات يطلق عليه غربياً بـ”فخ الديون الصينية”، خاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدول الدائنة واحتمال تخلفها عن السداد.
وبالتالي تتخوف واشنطن من رضوخ تلك الدول للهيمنة الصينية، مما دفع بها لممارسة ضغوطات على بكين للسماح بإعادة هيكلة الديون وخفض المبالغ المستحقة الدفع، ولكن الصين رفضت الصيغة الامريكية.
وفي نفس السياق، نقلت إذاعة صوت أميركا وصحيفة وول ستريب جورنال، مخاوف أطلقها خبراء أمنين أمريكيين بشأن الاستثمارات الصينية بالموانئ الخارجية، واعتبروها لاغراض عسكرية واستخباراتية.
ورداً على ما ينشر في وسائل الاعلام الغربية، أعدت وكالة الأنباء الصينية – شينخوا، تقريراً معمقاً دافعت فيه عن السياسات الاقتصادية للصين في الخارج، واعتبرته نشاطاً اقتصادياً يساهم في تطوير الاقتصاد المحلي للدول المستفيدة.
وأضافت بالقول، ان قدرة الصين على التحكم بأسطول الشحن البحري قد ارتفعت للمرتبة الثانية عالمياً مقارنة بالعام 2015 بعد ان كانت بالمركز الثالث، باعتبارها أهم مزود للسلع الوسيطة في العالم وأكبر مورد للمنتجات النهائية، واعتبرت ان التحام الصين مع السوق الدولية يتطلب منها إعادة تنظيم قنوات النقل العالمية.
مشروع القرن الصيني!
وأضافت الوكالة الصينية للأخبار– شينخوا، قائلة ان الصين وقعت أكثر من 200 وثيقة تعاون مع أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية منذ إطلاق ” مبادرة الحزام والطريق” عام 2013، ما أدى إلى إقامة أكثر من 3 آلاف مشروع تعاون وتوليد استثمارات تصل إلى قرابة تريليون دولار أمريكي.
وأوضحت ان طبيعة المشروع الصيني تتطلب إنشاء خطوط للربط تشمل ممرات و طرق تمر في بلدان وموانئ عديدة، مما يساعد بتجاوز العديد من القيود الجغرافية والاختلافات الثقافية عبر تحقيق تنمية اقتصادية في جميع أنحاء العالم.
واعتبرت الوكالة ايضا، ان الشركات الصينية تقوم بمشاريعها بالتعاون مع السلطات المحلية في تلك البلدان، مشيرة إلى أن الصين لا تتدخل بشؤون الدول الداخلية ولن تشكل أي تهديد أمني لها.
وبينما ركزت الاتهامات الغربية على ما وصف أنه مشروع القرن بالنسبة للصين، مبادرة الحزام والطريق، وأن الهدف النهائي له هو الهيمنة على العالم من خلال السيطرة على اقتصادات البلدان التي يستهدفها المشروع في القارات الثلاث، فإن الصين نفت باستمرار تلك الاتهامات وأكدت سعيها لتطوير وتنمية الاقتصاد العالمي.
وبالإشارة لبعض الاستثمارات الخارجية الصينية، فعلى سبيل المثال: استثمرت شركة كوسكو للشحن البحري أكثر من 660 مليون دولار أمريكي لبناء وتحديث محطات الحاويات في ميناء بيرايوس اليوناني منذ عام 2009، وتجاوز عدد الحاويات في الميناء اليوناني أكثر من 5.65 مليون حاوية حتى عام 2019، ليصبح أول ميناء متكامل في البحر الابيض المتوسط، ورابع أكبر ميناء أوروبي، وأحد أسرع الموانئ نمواً بالعالم، حيث بلغت أيراداته 214.5 مليون دولار خلال عام 2022، بزيادة قدرها 26.2%، وصافي ربح قدره 58.2 مليون دولار.
وعلى الرغم من تمكن الشركة الصينية للاستثمار في ميناء هامبورغ الالماني، وهو أول ميناء تجاري في ألمانيا والثالث في أوربا، إلا أن المفوضية الأوروبية حذرت الجانب الالماني من أخطار الاستثمار الصيني، وأضاف عليه تحذير أطلقه رئيس جهاز المخابرات الداخلية الالماني، والذي أشار فيه إلى امكانية توسيع الصين لأنشطتها التجسسية ضد برلين، محذراً من الاعتماد الاقتصادي على الصين.
أما مدينة ميناء كولومبو في سريلانكا، تعتبر أول منطقة اقتصادية عصرية تشيدها وتشغلها شركات صينية. من المتوقع ان تجذب استثمارات أجنبية مباشرة بأكثر من 9 مليار دولار، وإيرادات للحكومة السريلانكية تتجاوز الـ 5 مليار دولار، وتوفر أكثر من 400 ألف فرصة عمل.
وأعتبرتها مجلة فوربس الاميركية كواحدة من خمسة مدن ذكية جديدة ستؤثر على المستقبل. ورغم أهميتها المستقبلية تلك إلا أن المشككين بأهداف الصين طويلة الامد، اعتبروها واحدة من الجيوب العميقة للصين.
وإلى القرن الافريقي، فخلال عام 2017، افتتحت الصين أول قاعدة بحرية عسكرية لها في الخارج، تدعي أنها لأنشطة تتعلق بالمهمات الإنسانية قبالة السواحل اليمنية والصومالية ولدعم السفن الحربية الصينية التي تكافح القرصنة في خليج عدن.
وكذلك، مشروع ميناء ليكي النيجيري الذي تم تدشينه في يناير 2023، مولته وشيدته وشغّلته الشركة الصينية لهندسة الموانئ، وهو أول ميناء حديث عميق المياه في نيجيريا، وأحد أكبر موانئ غرب أفريقيا، بإمكانه أن يستوعب أكبر سفن الحاويات في العالم.
أما في الشرق الأوسط، افتتحت شركة مجموعة ميناء شنغهاي الدولي المحدودة ميناء حيفا الجديد في اسرائيل عام 2021، ليصبح أول ميناء جديد كبير في إسرائيل منذ ما يقرب من 60 عاما، ويعتبر من أكثر الموانئ تقدما وفعالية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ويستخدم تكنولوجيا الموانئ الأكثر تقدما في العالم.
تنافس على الهيمنة!
يقول محلل الشؤون الاستراتيجية في جي فوكس الدولية، أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ والهيمنة على العالم يتم باشكال مختلفة، فالولايات المتحدة اعتمدت أسلوب القوة العسكرية واستخدام أدوات ناعمة ايضاً. بينما فضلت الصين أستخدامها للقوى الناعمة مثل الاقتصاد والاقراض وأدوات أخرى لنشر نفوذها عالمياً.
و أستبعد أن تقوم الصين بتغيير أسلوبها هذا في الوقت الحالي، طالما أن استراتيجيتها الحالية تحقق لها مكاسب اقتصادية وسياسية استراتيجية، بل إن مكاسبها أكثر عمقاً، فهي لم تتحمل كلفة ومخاطر نشر قوات عسكرية لها في الخارج، وتحقق مكاسب اقتصادية كبيرة، وتستخدم أدوات إستراتيجية أكثر تأثيراً بالدول على المدى الطويل، حيث أنها ترسم علاقات جيدة مع جميع دول العالم، وفي نفس الوقت تجعل تلك الدول بحاجة لاستثماراتها ونفوذها الاقتصادي مما يجعلهم يتقاربون أكثر مع مصالحها الدولية.
وذلك على عكس الأسلوب الذي أتبعته الولايات المتحدة لنشر نفوذها في العالم، حيث أنها تكبدت خسائر كبيرة جراء نشرها لقواعد عسكرية وإرسالها لقوات قتالية الى مختلف دول العالم طوال العقود الماضية.
ولم يستبعد محلل الشؤون الاستراتيجية في جي فوكس الدولية، أن تنشئ الصين قواعد عسكرية لها في بلدان أجنبية مستقبلاً. موضحاً أن ذلك سيعتمد على مدى حاجة الصين لنشر قواعد عسكرية لها في الخارج، وأي البلدان التي ستقدم فيها على هكذا خطوة، لحماية مصالحها المتزايدة وتكريس نفوذها الدولي.
Comments 1