“يمر العالم حاليا في مرحلة انتقال من نظام عالمي أحادي القطبية إلى نظام عالمي ثنائي القطبية، وتشكيل مراكز نفوذ جديدة”.
خلال فترة الحرب الباردة الأولى، كان العالم منقسما سياسيا وايدلوجيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا، إلى معسكرين، الأولى الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة، والثانية الكتلة الآوراسية بزعامة الاتحاد السوفيتي، ولم يكن في النظام القديم ” مراكز نفوذ” بخصائص وميزات التي تتشكل في النظام الجديد، حيث كانت مراكز التأثير تدور حول قطب واحد فقط، اما الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي.
بعد انتهاء الحرب الباردة الأولى وانهيار الاتحاد السوفيتي، دخل الاتحاد الروسي ” البديل” عن الاتحاد السوفيتي، في حالة من الفوضى داخليا، وخلال فترة إعادة بناء الدولة الوطنية، فقدت الدولة الروسية نفوذها السوفيتي السابق. وبالتالي انتقل العالم الى نظام “أحادي القطب”، بزعامة الولايات المتحدة الامريكية.
خلال ذلك، واصلت الصين نموها الاقتصادي بخطى ثابتة، واستمرت في بناء علاقاتها الاقتصادية مع جميع الأطراف الدولية على أساس تبادل المنفعة الاقتصادية.
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، شهدت روسيا حراكا سياسيا أعاد القوميون الى مراكز السلطة، كما ان وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى مراكز صناعة قرار الدولة كان نتيجة للتفاعلات السياسية الداخلية خلال تلك الفترة.
خلال الفترة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ساد اعتقاد بين الأوساط السياسية الامريكية، على وجه الخصوص، بأن روسيا قد تعود للبحث عن نفوذها السوفياتي مستقبلا، وبالتالي على واشنطن منع حدوث ذلك الأمر قبل وقوعه، وبناء عليه أتبعت الولايات المتحدة استراتيجيتان لمنع إعادة احياء النفوذ السوفياتي عبر الاتحاد الروسي.
الأولى، ” غربنة” روسيا، من خلال تقديم الدعم السياسي للديمقراطيين ومساعدتهم على الوصول للسلطة وتأسيس واقع سياسي مغاير، على شكل النموذج الغربي في أوروبا، وكذلك “غربنة” الاقتصاد الروسي والدفع بالشركات الاميركية والغربية الى الأسواق الروسية، وتصدير الثقافة الغربية للمجتمع الروسي.
الاستراتيجية الثانية، تقوم على تقديم الدعم لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من أجل تكريس حالة الدولة فيها، وتعزيز الشعور القومي المتنامي لدى شعوبها، وذلك من أجل التصدي لأي نزعة توسعية روسية على بلدانهم في المستقبل.
في مقابل ذلك، القوميون الروس كانوا يراقبون عن كثب كل ما يجري من حولهم، مدفوعين بنزعة ورغبة توسعية من خلال الدولة الروسية الجديدة نحو المجال الحيوي السوفيتي. وتمثل ذلك الشعور القومي، في دفع “فلاديمير بوتين” للسلطة، وهي خطوة لـ “تصحيح” سياسات آخذ روسيا للشراكة مع الغرب، على الطريقة الامريكية، بدل الصدام مع الغرب.
بدأت موسكو التي سيطر فيها بوتين والقوميون على السلطة، في صياغة مصالح الدولة الاستراتيجية، بشكل مختلف عما أرادته واشنطن والغرب، وفقا لمفهوم ” العالم الروسي”، الذي تبناه القوميون الروس منذ زمن بعيد، رغم اقراره رسميا مؤخراً من قبل بوتين خلال الحرب على أوكرانيا، كعقيدة للسياسة الخارجية الروسية.
يمكن القول ان بداية التطبيق العملي للمفهوم، تجلت بوضوح من خلال الاعمال العسكرية التي قامت بها موسكو في سوريا، ليبيا، جورجيا، أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، وغيرها من “الاعمال الهجينة” التي تمارسها في دول المنطقة الاوروبية والشرق الأوسط وشمال افريقيا. ويقوم مفهوم ” العالم الروسي” على أساس “إعطاء الحق لروسيا بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، اما لحماية مصالح استراتيجية للدولة الروسية، أو حماية مصالح مواطنين أجانب من أصول روسية، و/ أو حماية حقوقهم الثقافية وغيرها”.
وبالتالي بدأت موسكو فرض نفوذها تارةبالقوة القاهرة، وتارة اخرى بالقوة الناعمة، أو كلاهما معا، على آوراسيا، كما ان استخدام الغاز الروسي كسلاح في الصراع مع الغرب، يندرج ضمن مجموعة أدوات القوة الناعمة لروسيا.
جمهورية الصين الشعبية، هي الأخرى تتبع سياسات خارجية مدفوعة بنزعة توسعية أيضا، ولكن باستخدام أدوات واستراتيجيات مختلفة عن التي تستخدمها موسكو. واصلت الصين صعودها اقتصاديا، حتى وصفت بأنها ” مصنع العالم”. ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ومن المرجح ان يتجاوز الاقتصاد الأمريكي في المستقبل، إذا واصلت النمو بنفس الوتيرة من دون حدوث أزمات عالمية توقف عجلة التقدم الاقتصادي للصين.
أدرجت الصين في عام2017 “مبادرة الحزام والطريق” ضمن دستورها الوطني للبلاد، وهي استراتيجية صينية تسعى بكين من خلالها إلى نشر نفوذها عالميا. وذلك عبر انشاء طرق تجارة برية وبحرية، تمر في دول عدة، ومناطق مختلفة في اسيا – أوروبا – افريقيا. وعلى الرغم من ان المبادرة الصينية، تبدوا للوهلة الأولى كمشروع اقتصادي تنموي، إلا أنه مقدمة لنشر وتكريس نفوذ صيني واسع في مجالات (اقتصادية – سياسية – عسكرية)، وخاصة في الدول التي تمر عبرها أو بالقرب منها الطرق والممرات البحرية والبرية.
وعلى عكس الاتحاد السوفيتي الذي تبنى أيدولوجيته الشيوعية في نشر نفوذه عالميا، فإن الصين لم تتبن نشر نفوذها عبر أيدلوجية نظامها الشيوعي الحاكم، واختارت استخدام أدوات ناعمة عالية القوة والتأثير (الاقتصاد والتجارة والقروض المالية للدول) لنشر النفوذ والوصول الى قمة هرم إدارة النظام العالمي.
بالإمكان فهم النزعة التوسعية للصين من خلال ” مبادرة الحزام والطريق” الغارقة في مفهوم الـ “ تيانشيا” وهو مفهوم قديم في الثقافة الصينية، (يتحدث عن سلطة الامبراطور الصيني – أبن السماء، على الأرض، وقبوله انضمام مجموعات من الناس من أعراق وجنسيات مختلفة للصين – ولاية الجنة، ويتم ذلك الامر فقط بعد دخولهم تحت مضلة سلطته المطلقة وقبولهم له كإمبراطور عليهم).
فالصين طورت أدواتها للسيطرة ونشر النفوذ، وفق فلسفة خاصة بها، دون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية كما فعل الاتحاد الروسي في ضم القرم ومناطق شرق أوكرانيا.
يقول هالفورد ماكيندر في نظريته الشهيرة، ” قلب الأرض”: من يحكم أوروبا الشرقية يحكم قلب الأرض، ومن يحكم قلب الارض يقود جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم، يحكم العالم”.
ولفترة وجيزة خلال الأعوام (1949-1960) قبل الانقسام الصيني – السوفياتي، اقترب العالم الشيوعي من الهيمنة على “جزيرة العالم” لماكيندر. ولكن بعد الانقسام الأيديولوجي بين الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية، تحولت بكين إلى الداخل وانخرطت في أعمال التدمير الذاتي، و “القفزة الكبرى إلى الأمام” (1958-1962) و “الثورة الثقافية”، (1966-1976). بينما اتبعت موسكو إستراتيجية الحفاظ على السيطرة على أوروبا الشرقية و “قلب الارض” من خلال السيطرة على الأراضي المحيطة، والتي أسماها ماكيندر بـ “الهلال الداخلي” من “جزيرة العالم”.
وفي هذا الصدد، يبرز الاختلاف بين الماضي والحاضر، فالاتحاد الروسي لم يعد يمثل نموذجا شيوعيا ايدلوجيا كما كان الاتحاد السوفيتي، ولا جمهورية الصين الشعبية سبق وان تبنت خطابا شيوعيا ايدلوجيا في سياستها الخارجية، ولا توجد مؤشرات واضحة على استخدامها لأدوات في نشر نفوذها عبر الأيدلوجية الشيوعية. وبالتالي لا تصادم أيديولوجي بين النظامين كما حدث في الفترة السوفيتية، وكذلك اكتسبا خبرة في معرفة سياسات واشنطن للحفاظ على مكانتها العالمية، من خلال تجاربهما السابقة مع واشنطن خلال فترة الحرب الباردة، علاوة على ذلك، شعورهما المتزايد بالتذمر والاستياء مما يسمونه بالهيمنة الغربية على القرار العالمي، ونزعتهما (الصين وروسيا) التوسعية، و المشاركة بزعامة العالم.
وهذا يُبين بوضوح وجود قواسم مشتركة مهمة بين البلدين، عابرة للأيدلوجيا، تدفعهما للتحالف ضد الولايات المتحدة، رغم وجود خلافات تأريخية كبيرة بين بكين وموسكو على مسائل تتعلق بالنفوذ والسيطرة.
جرى ترجمت التحالف الصيني – الروسي، الهادف لعالم متعدد الأقطاب ومراكز نفوذ جديدة، من خلال إنشاء مجموعة تحالفات أوراسية ودولية، أبرزها (منظمة شنغهاي للتعاون) والتي تأسست في عام 1996 ، على شكل تكتلا إقليميا بزعامة البلدين، ضم عدة دول من المنطقة الآوراسية. وجرى توسيع المنظمة على عدة مراحل خلال فترات زمنية مختلفة بضم دول جديدة إلى عضويتها، حتى أصبحت تضم نصف سكان الأرض، حيث أنها تمتد جغرافياً من الشمال إلى الجنوب، من القطب الشمالي إلى المحيط الهندي، ومن الشرق إلى الغرب من ليانيونجانج في الصين إلى كالينينجراد في الاتحاد الروسي.
وكذلك تحالف “بريكس”، هو الآخر، تم إنشاؤه بزعامة بكين وموسكو، كتحالف استراتيجي بين الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم (الصين – روسيا – الهند – البرازيل – جنوب أفريقيا). ويدعو لعالم متعدد الأقطاب.
الولايات المتحدة الامريكية تستخدم عدة أدوات استراتيجية في نشر نفوذها على دول العالم، كالقوة العسكرية – نشر الديمقراطية – الدعم الاقتصادي وتقديم القروض المالية، وكذلك بالعمل من خلال مؤسسات النظام الدولي القائم حاليا، والتي غالبا تسيطر واشنطن على القرارات الاستراتيجية التي تصدر عنها.
خاضت الولايات المتحدة الكثير من الحروب العسكرية خلال العقود الماضية ادخلتها في مواجهات معقدة مع أطراف دولية مختلفة، كالجماعات إلارهابية، على ساحات ومناطق مختلفة من العالم، كما حدث في حربها على أفغانستان والعراق. وعلى الرغم من أن للولايات المتحدة تجربة سابقة في حرب فيتنام، وتجربة أخرى مشابه، صنعتها خصيصا للاتحاد السوفيتي في أفغانستان، إلا أنها هذه المرة هي نفسها أصبحت أمام سيناريو استنزاف بسبب الحروب المتكررة، التي اكتشفت بعد فوات الأوان، من خلال تطورات الاحداث فيها، ان اسقاط أنظمة الحكم لا يعني نهاية للحرب، بل هو لم يكن سوى بداية لحرب أوسع وأشرس، كالحرب على التنظيمات الارهابية مثل القاعدة، وداعش.
ومثلما شكل الإرهاب السُني بزعامة تلك التنظيمات الجهادية المتطرفة، معضلة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي برمته، إلا أن الإرهاب الشيعي بزعامة إيران، المدفوعة بنزعة توسعية واضحة بالشرق الأوسط، لم يكن أقل خطرا على الاستقرار العالمي، من خلال تأسيس ميليشيات عقائدية مسلحة تنتشر في دول عدة في المنطقة وتعمل على تطبيق أجندة إيرانية استراتيجية.
ولما جاءت ما تُسمى بالثورات العربية، وتساقطت الأنظمة العربية الواحدة تلو الأخرى، قفزت كل تلك الجماعات والميليشيات المدججة بالأسلحة إلى صدارة المشهد وتسللت عبر الفوضى الشعبية والسياسية في الدول العربية، لإيجاد موطئ قدم جديد لها، وأصبحت بداية جديدة أخرى في تأزيم المشهد العام وإرباك الحالة الإقليمية والدولية، فتشكلت خارطة جيوستراتيجية – خارطة حرب – شديدة التعقيد والتداخل بين المصالح الإقليمية والدولية، حيث استطاعت الجماعات والميليشيات الإرهابية، سواء السُنية مثل ( القاعدة وداعش – ومن على شاكلتهم ) أو الشيعية المدعومة من إيران، توسيع نفوذها الى مناطق صراع جديدة في المناطق المفككة، وإعادة تشكيلها وفق مصالح استراتيجية مغايرة، وإيجاد مساحات نفوذ جديدة.
ذلك المشهد برمته شكل متغيرا استراتيجيا، حيث وضع الولايات المتحدة أمام تحدٍ جديد اخر ساهم بشكل كبير في اضعاف قوتها على التأثير، وبالتالي دخول فاعلين جدد يتقاسمون مساحات نفوذ معينة مثل: (إيران – تركيا – روسيا – دول الخليج العربي).
دعونا نفترض جدلا ان روسيا وجدت نفسها مُجبرة على الدخول عسكريا بقوة إلى الساحة السورية من أجل الحفاظ على بقاء حليفها السوري بالسلطة، وبالتالي للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في الشرق الأوسط وتموضعها الجيوستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط. ولكن موسكو نجحت بالفعل في تحقيق ذلك، وصار موقفها بالدخول الى معادلة الصراع في الشرق الأوسط وشمال افريقيا عبر بوابتي سوريا وليبيا، فرصة ذهبية أعادت للروس “هيبة” انتزعها الغرب منهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وعادت موسكو من جديد على الساحة الدولية، وللمرة الأولى منذ زوال الدولة السوفيتية، كقوة دولية فاعلة تفرض إرادتها بأسلوب القوة على العالم.
دخول روسيا وإيران، وقبلهما الإرهاب الجهادي، إلى معادلة الصراع بأسلوب استخدام القوة، جعل الولايات المتحدة في موقع المواجهة ضد أطراف متعددة في منطقة صراع واحدة. وبينما هذا الصراع جاري هناك، فعلى الطرف الآخر، وتحديداً في جنوب شرق آسيا، واصلت الصين ربطها لاقتصادات العالم بها، وكوريا الشمالية أيضا، الحليفة لبكين وموسكو، واصلت تهديدها النووي على جارتها الجنوبية، الحليفة لواشنطن والغرب، وكذلك على معظم المصالح الامريكية في المنطقة.
كل ذلك يحدث وواشنطن تتابع بقلق بالغ توغل النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري للتحالف الآوراسي، على الدول في آسيا – أفريقيا – أمريكا اللاتينية، وصلات التقارب التي تقوم بها كلا من الصين وروسيا وإيران مع دول أخرى من العالم يجمعها قاسم مشترك ” العداء” للولايات المتحدة – والغرب الأمريكي. بالإضافة إلى تراجع قوة وتأثير المؤسسات الدولية التي تسيطر واشنطن على قراراتها، في حل الازمات الدولية القديمة والجديدة.
ويمكن اختصار كل ما جرى ويجري حاليا، على أنه تهديد مباشر للنفوذ الأمريكي في العالم!، وتعزز هذا الاعتقاد بعد الانسحابات العسكرية الامريكية من العراق وأفغانستان والشرق الأوسط، وتعزز أكثر، بعد الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا، وتداعيات جائحة كوفيد-19.
أعاد مشهد الانسحاب الفوضوي للقوات الامريكية من أفغانستان، الى الذاكرة مشاهد الهزيمة الامريكية في فيتنام خلال القرن الماضي. وقبل ذلك، الانسحاب الأمريكي من العراق الذي وصف بأنه “غير مسؤول”، ولايزال البلدين يعيشان ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وامنية قاسية وشديدة الخطورة، حيث عادت كابول تحت حكم طالبان من جديد، وبغداد لاتزال تحت نفوذ طهران. علاوة على ذلك، ان قرار الولايات المتحدة تقليص حجم قواتها العسكرية في الشرق الأوسط، جاء في وقت تشهد فيه المنطقة تصاعدا ملحوظا للدور والنفوذ الأمني والسياسي لطهران وموسكو من جهة، وزيادة الدور والنفوذ الاقتصادي لبكين من جهة أخرى.
تُظهر المؤشرات والتطورات المتسارعة على الساحة العالمية ان العالم يتجه لعالم متعدد الأقطاب، ومراكز نفوذ تتشكل في النظام الجديد.
وفي هذا الصدد، وضعت تصورا افتراضيا عن الشكل الذي سيتطور عليه النظام الجديد – ثنائي القطبية، وكذلك مراكز النفوذ الجديدة. وعند الحديث عن نظام ثنائي، ذلك لا يعني أننا سنكون أمام نظام طبق الأصل عن الذي كان عليه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أننا وسط حالة مغايرة تماماً، فالنظام الجديد سيمر عبر عدة مراحل حتى يصل الى الشكل الذي سيصير عليه، كما هو موضح في الشكل الافتراضي لهرم النظام العالمي.
وقبل ان نصل الى شكل النظام مثلما هو موضح في (الشكل الافتراضي 3) فإن هناك مرحلة تتبلور ملامحها حاليا قبل ان نصل الى الشكل النهائي الموضح بالشكل الافتراضي “رقم 3″، وهي المرحلة الآوراسية، حيث ان النظام الاوراسي يتشكل خلال هذه المرحلة كما هو موضح بـ(الشكل الافتراضي 1).
وكما أشرت أعلاه، ان النظام العالمي الجديد، لن يكون مطابقا للنظام القديم، وذلك بظهور متغيرات جديدة في الشكل الجديد للنظام، فعلى سبيل المثال، كما هو موضح بـ(الشكل الافتراضي 3 ) ظهور مراكز نفوذ توصف على أنها مراكز ارتكاز للأقطاب، ستكون لها مساحات أكبر من السابق في ممارسة دورها ونشر نفوذها، فالاتحاد الروسي بمواصفاته وخصائصه الجديدة المتطورة، سيكون مركز ارتكاز للقطب الصيني، مع ممارسة دور ونفوذ أكبر من وصفه بالتبعية الكاملة للصين، وكذلك الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لن يوصف بالتبعية الكاملة للولايات المتحدة، وسوف يمارس قدر أكبر من الادوار والنفوذ من خلال دوله الأعضاء، مثل: ( فرنسا – اسبانيا – المانيا – دول شرق أوروبا ) في دول لها روابط تأريخية وثقافية معينة مع أوروبا. والمملكة المتحدة أيضا، ستعمل على تعزيز دورها التأريخي وزيادة نفوذها على دول الكومنولث ودول في الشرق الأوسط لها روابط وصلات تأريخية مع بريطانيا العظمى.
وهكذا الحال سيكون بالنسبة لبقية الأطراف المؤهلة للعب دور المركز. أما الدول المُصنفة وفق هذا (الشكل الافتراضي 3) على أنها تابعة استراتيجيا لاحد القطبين، ولا تمتلك القدرة على ممارسة دورها بمعزل عن القطب أو مركز نفوذ “ارتكاز”، ستوكل اليها مهام ووظائف محددة تقوم بها ضمن مجالها الإقليمي.
وابدأ في طرح الفرضية من بداية تشكل المرحلة الاوراسية على الشكل التالي:
المرحلة الأولى، يتشكل النظام الآوراسي، بزعامة الصين وروسيا، من خلال منظمة شنغهاي للتعاون “نواة التشكيل الاوراسي”، ويتم خلال هذه المرحلة تطوير أدوات التكتل الاوراسي (الاقتصادية – المالية – الأمنية.. ألخ) وضم المزيد من الأعضاء والشركاء. ( شكل افتراضي 1)

قلب المركز
يتشكل من الصين وروسيا، يمارس كلا منهما مهام ووظائف قيادية استراتيجية يتم الاتفاق عليها بين الطرفين، ومن بينها، إدارة النفوذ والعلاقة مع الدول الأعضاء ضمن حدود معينة، وتوزيع المهام والادوار بالاتفاق مع الدول المعنية في هذا النظام.
مدار الفلك
هو مجال حركة دوران الدول المشاركة في النظام الاوراسي، حول مركز النظام، والذي يقع في قلبه كلا من (الصين وروسيا) “قلب المركز”. وحركة الدوران هي تمثيل للمهام والوظائف والادوار الموكلة للدول الأعضاء، ونتائجها وتفاعلاتها تصب في مصلحة النظام برمته.
مراكز النفوذ
هي مراكز يتحرك من خلالها النظام الاوراسي، وتقوم بممارسة مهام ووظائف وأنشطة متعددة، في مجالها الإقليمي أو الدولي، تصب بمجملها في مصلحة النظام استراتيجيا.
وتلك الالية سوف يعمل بها النظام، في مرحلة لاحقة، “نظام القطب العالمي العابر للآوراسية”. تدور الدول الأعضاء التي تحظى بمواصفات خاصة (مراكز النفوذ) في مدار فلك واحد، حيث يتشكل نفوذ التكتل الآوراسي من خلال آلية عمل تقوم على توزيع الأدوار والمهام المحددة في اتفاق مسبق يتم بين دول قلب المركز ودول مراكز النفوذ، وفق مبدأ توزيع النفوذ وتقاسم أعباء الادارة الاستراتيجية. أما بشأن الدول غير المؤهلة أن تكون ( مركز) ستوكل اليها أدوار ومهام للقيام بها في محيطها الاقليمي. جدير بالاشارة إلى أن أسماء الدول وعددها في (الشكل الافتراضي 1) لا يمثل كل دول النظام الاوراسي، انطلاقا من الاعتقاد بأن المجموعة يمكن لها ان تتسع بضم دول جديدة بين صفوفها. وانما الغرض هو توضيح كيفية عمل النظام.
خلال المرحلة الآوراسية، وبينما الحرب الروسية على أوكرانيا لا تزال مستمرة، فان العالم سيشهد مزيد من التطورات على الساحة الدولية، وبسبب تفاعلات دولية متداخلة تفاصيلها سيتكون مُتغير آخر بعد أنتهاء الحرب، ألا وهو تراجع موقع الاتحاد الروسي بسبب الضعف في ميزان القوة لروسيا عالميا، مع استمرار صعود الدور الصيني. مع ذلك، فإن موسكو ستحافظ على دور الزعامة في الحالة الآوراسية، إلى جانب الصين، ولكن بقدر أقل بطبيعة الحال. ( شكل افتراضي 2)

هكذا أكون قد عرضت الفكرة بخصوص الحالة الاوراسية وتفاعلاتها. ابدأ الان في عرض الفكرة الاوسع، فيما يتعلق بكيفية عمل النظام العالمي الجديد، وذلك بعرض (شكل افتراضي) لهرم النظام العالمي الذي يتشكل حاليا.
قبل كل شيء علينا إدراك حقيقة ان العالم قد تغير، وذلك من خلال المرور على حقيقة أكثر تفصيل في وقتنا الحاضر، وهي ان الصين اليوم ليست كما كانت قبل عقود من الزمن، من حيث ميزان القوة. ولا الاتحاد الروسي هو الاخر في العام 2022، كما كان في قمة ضعفه مطلع التسعينيات، والولايات المتحدة ايضا ليست في أوج عظمتها كما كانت بعد الحرب الباردة الأولى، أو حتى خلال مطلع القرن الحالي -21.
ان رؤية الحقيقة يبدأ من فهمنا للمتغيرات في عالم اليوم، لا شك ان ميزان القوة قد تغير، وبالتالي فرص صعود شركاء أو خصوم، أو أعداء، إلى قمة هرم النظام العالمي، أصبح أمر لا مفر منه، وفي سبيل إيجاد تطبيق عملي لمبدأ المسؤولية وفق موقف أخلاقي وإنساني، فيجب على القوى الكبرى البدء بتقديم التنازلات من الجميع للجميع، لتجنب حرب نووية عالمية مدمرة، وذلك انطلاقا من مبدأ ” تقاسم أعباء إدارة النفوذ وشؤون العالم”.
في هذا الشكل الافتراضي ( شكل افتراضي 3)، يتشكل النظام العالمي الجديد، ومراكز النفوذ على الشكل التالي:

المنطقة الأولى – أحجار المركز ( القطبين العالميين)
في أعلى قمة الهرم، الولايات المتحدة والصين، يستخدم كلا منهما أدوات وسياسات للتأثير على الدول الأخرى، في محاولة للاستقطاب الى مجال نفوذهما الاستراتيجي. فعلى سبيل المثال، تستمر الولايات المتحدة في استخدام “الديمقراطية” ودعم المجتمعات والمؤسسات “الديمقراطية” في العالم، والبحث عن شركاء جدد، في المناطق الثلاث المحددة في شكل الهرم الافتراضي للنظام (الشكل الافتراضي 3) وسوف يكون التنافس مع الصين على تلك الدول، من خلال توفير الدعم المالي والاقتصادي للحكومات والمؤسسات ومراكز القوى المحلية في تلك البلدان، بالاضافة الى مجالات أخرى، مثل : التكنلوجيا – التسليح – المواقف السياسية الدولية.. ألخ. وفي المقابل تستمر في استخدام “سياسة العقوبات” ضد الدول الموالية للقطب الصيني الآوراسي، بينما تستمر الصين في نشر نفوذها على أساس تحقيق المكاسب المالية والاقتصادية التنموية للدول المستفيدة، وإنشاء تحالفات سياسية مع الحكومات أو القوى المؤثرة في الخرائط (السياسية – الاجتماعية – العسكرية)، دون إيلاء اهتمام لطبيعة النظام السياسي (ديكتاتوري أم ديمقراطي/ عسكري أم مدني)، والمعيار الرئيسي لبكين في تقديمها للدعم و/أو تكريس حكم الأنظمة الديكتاتورية / الديمقراطية، “إذا قبلت تلك القوى أو الحكومات خيار الدخول تحت نفوذها على حساب النفوذ الأمريكي الغربي”.
المنطقة الثانية – أحجار الارتكاز (مراكز نفوذ وتأثير الاقطاب)
تتشكل من دول ومناطق وتكتلات تدور كل مجموعة منها في مجال قطب واحد، الأمريكي أو الصيني، ولكن مع ميزة جديدة لبعض الاطراف، بممارسة أدوار أكبر من السابق، لزيادة نشر نفوذها في دول من العالم لها خصائص تأريخية وثقافية معينة. فعلى سبيل المثال، سيعمل الاتحاد الأوروبي عبر دوله الاعضاء، مثل (فرنسا – اسبانيا – ألمانيا – دول شرق أوروبا) على زيادة النفوذ الأوروبي في (أفريقيا – أوراسيا – أمريكا اللاتينية)..ألخ. وجدير بالإشارة الى أن دول شرق أوروبا ستحظى بدعم أوروبي – أمريكي كبير جدا لتطوير اقتصاداتها البنى التحتية فيها وتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية، وكذلك القيام بأدوار من شأنها تعزيز أمن وسلامة دول الاتحاد الاوروبي، فتلك المنطقة الحيوية عادت من جديدة لتشكل حدود العلاقة الأوروبية – الروسية، من منظور أمني.
وكذلك الحال بالنسبة لدور ونفوذ المملكة المتحدة في دول الكومنولث، و دول الشرق الأوسط التي لها روابط تأريخية مع بريطانيا.
الإتحاد الروسي أيضا، سيزيد من وتيرة دوره الجديد القائم على مفهوم (العالم الروسي) في إعادة نشر نفوذه في المجال الحيوي السوفيتي، ودول الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي لها روابط تأريخية مع الاتحاد السوفيتي السابق. وبالتالي، إن تلك الأدوار والمهام ستكون محددة سلفا ومُتفق عليها، بين كل قطب مع مراكزه والدول التابعة لنفوذه، حيث أن توسيع مساحات النفوذ والتأثير تُمثل أولوية قصوى لجميع تلك الاطراف ضمن انظمتها.
المنطقة الثالثة – أحجار الوسط (مراكز نفوذ وتأثير، تتحرك بين القطبين ومراكز نفوذهما)
تقديري أن تشكل هذه المنطقة يُعد أهم مُتغير في شكل النظام العالمي الجديد، وذلك بسبب الامكانيات الهائلة التي تحظى بها تلك الدول( بشريا، اقتصاديا، جغرافيا، عسكريا) بالاضافة لطبيعة علاقاتها المتوازنة الى حد ما، مع الغرب والشرق (الولايات المتحدة -الصين – الاتحاد الأوروبي – الاتحاد الروسي)، الأمر الذي يجعلها منطقة ” توازن” بين القطبين ومراكز نفوذهما، ثم بالامكان أن يساعدها هذا التوازن مع قدراتها الكبيرة في خلق قوة من نفسها على هيئة “مركز نفوذ وتأثير” عابر للحدود الإقليمية.
وبناء على هذا التصور ذهبت الى اعتبار (منطقة الوسط – أحجار الوسط) من أهم المتغيرات في شكل النظام الجديد، ولكن شريطة ان تحافظ الدول في هذه المنطقة الافتراضية على مسار التنمية وقوة الدولة والتمسك بعلاقات متوازنة مع كافة الأطراف، وبالمقابل، ستتمكن من ممارسة دور جوهري مميز، بعلاقة متوازنة ” استراتيجيا” مع القطبين العالميين، حيث لا يفترض على تلك الدول أن تنتمي بشكل كامل لطرف على حساب الطرف الاخر، وتلك سياسة ستحقق مكاسب كبيرة وتمنحها خيارات أفضل وإدارة مثلى لمصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنها ستكون بمعزل عن محاولات وسياسات ستمارسها بكين وواشنطن، ومراكز نفوذهما، بشكل متكرر على الدول الوسط، لغرض جرهم بالكامل الى الصف الامريكي أو الصيني.
وكما هو سائد بطبيعة الحال في العلاقات الدولية وإدارة المصالح، فإن الدول تبحث عن تحقيق أعلى قدر ممكن من المكاسب بعلاقاتها مع الدول الأخرى، وعليه فإن من المؤكد وخلال فترات معينة ستلجأ بعض الدول أو كلها، لاتباع سياسة ترجح فيها طرف على حساب الطرف الاخر، وذلك يتم في جانب من جوانب العلاقة يتصل بمصلحة معينة تقررها الدولة، ولكن لا يفترض بهذا السلوك ان يكون “قاعدة” في سلوك أو استراتيجية الدولة، وانما ينبغي ان يكون “استثناء” محدد وينتفي العمل به لحين تحقق المصلحة العليا التي دفعت الدولة لاتباع هذا الأسلوب.
كما لا ينبغي حدوث أمر من هذا النوع على مستوى إستراتيجي يضر بعلاقة الدولة مع قطب من الأقطاب. حيث أرى ان هكذا أسلوب يشكل فجوة بالعلاقة مع طرف أقوى، مما يعطيه دافعا للضغط باستخدام أدوات تحريضية لزعزعة أمن واستقرار الدولة، أو محاربة مصالحها الدولية بطرق وأدوات مختلفة. وعليه، أجد ان البقاء في منطقة الوسط يتيح للدولة مساحة أكبر لممارسة الأدوار والنفوذ والمحافظة على توازن الدولة ومصالحها الاستراتيجية العليا.
وفي هذا الصدد، أجد أن من الضروري ذهاب دول منطقة الوسط – أحجار الوسط، إلى خيار تطوير مستوى علاقاتها إلى مستوى إستراتيجي أعلى شأن، والعمل على إنشاء تحالفا استراتيجيا، على سبيل المثال: منظمة إقليمية أو حتى عابرة للجغرافية الاقليمية، بضم الدول المحددة في منطقة – أحجار الوسط- مع ضرورة توسيع التحالف فيما بعد بضم دول جديدة بمواصفات مشابه، ويتم العمل على بناء هكذا تحالف، بصياغة محدداته السياسية الضامنة لمبدأ التوازن في العلاقات الدولية مع الاحلاف الأخرى، وأمن وسلامة الدول الأعضاء من الصراعات الدولية، وتحقيق التنمية والمكاسب الاقتصادية بشكل مستدام. وفي واقع الامر، ان هكذا نظام ستجد فيه الأقطاب ومراكز نفوذها، حاجة لضمان نوعا من الاستقرار في العالم بعدم الانجرار الى نقطة اللاعودة في حروب نووية مثلا، وذلك لا يتم إلا من خلال التعاون والشراكة مع كافة الأطراف الدولية بما يحقق مصالح الجميع.
ومثلما هو حال العلاقة القائمة بين الصين وروسيا، ودول أخرى، على أساس رفض هيمنة الغرب، والتي قادتهم للتحالف وتنحية الخلافات جانبا. و حال العلاقة بين الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة، كندا اليابان، كوريا الجنوبية، على أساس الحفاظ على التفوق العالمي، فلابد أذن للعلاقة بين الدول في منطقة الوسط، أن تقوم على أساس الحفاظ على الأمن والمصالح التنموية والدولية عبر تشكيل تحالفا استراتيجيا، ذات طابع سياسي – أمني – اقتصادي.
المنطقة الرابعة – أحجار مُتحركة(منطقة صراع – تنافس – تفاهم – تخادم مصالح)
في كل نظام دولي عرفته البشرية طوال تأريخها، كانت هناك دول قوية، متوسطة، وضعيفة. اما الدولة الضعيفة، على اختلاف أسباب الضعف فيها (سياسية، أمنية، اقتصادية، اجتماعية، أو كل تلك الأسباب مجتمعة) تكون عرضة لخطر ان تُستباح سيادتها من دول أقوى، أو ان عليها تقديم التنازلات باستمرار، والتي تمس بسيادتها ايضا. وذلك قد يحدث لغرض تجنب غزو عسكري. وبالنتيجة فإن الدولة الأضعف تصبح تحت تأثير أو سيطرة دولة أخرى أو أكثر، ولكن في كثير من الأحيان، هكذا نوع من الدول تتطور بشكل خطير للغاية وتصبح ساحة تتصارع عليها الدول الأقوى، اما لهدف السيطرة عليها أو لفرض إرادة سياسية معينة في قضية دولية أخرى.
وجرت العادة في وصف دولة بالضعيفة، عندما تكون مُنهكة اقتصاديا، أو مُستنزفة عسكريا بسبب حروب خارجية خاضتها أو حروب ونزاعات أهلية حطمتها داخليا، أو أنها تعاني من أزمات سياسية حادة مستمرة وتؤثر على أوضاعها العامة بما يجعلها عرضة للتدخلات الخارجية.
لا تزال العديد من الدول في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية تعاني من ازمات حادة اقتصاديا- أمنيا- سياسيا – اجتماعيا. الأمر الذي يجعل منها عرضة لزيادة حجم التدخلات الخارجية في صناعة قراراتها. وبالتالي ستشهد الحالة تطورا في النظام العالمي الجديد، بدخول أطراف جديدة أو أطراف موجودة بالأساس، ولكنها ستعمل على تعزيز مواقعها ونفوذها على ساحة التنافس/ الصراع.
فعلى سبيل المثال، تسعى الصين لنفوذ لها في العراق عبر بوابة التنمية الاقتصادية للبلاد، والذي كان لفترة قريبة يعتبر ساحة نفوذ للولايات المتحدة، لكنه في نفس الوقت، يشكل ساحة صراع بين واشنطن وطهران. حيث بدأت الصين بالفعل منذ سنوات تعمل على ملئ فراغات اوجدها تراجع النفوذ والتأثير الأمريكي في البلاد، وخشية الاستثمارات الغربية بالدخول الى العراق، كلها أسباب قادت بالصين لتطوير سياستها تجاه العراق، في وقت يتعطش الاقتصاد العراقي المحلي لرؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، وبدأت بكين القيام بإجراءات اقتصادية وتنموية من شأنها جعل البلاد ساحة لنفوذ الصين في المستقبل. وفيما لو أرادت واشنطن العودة لفرض نفوذها بقوة من جديد على البلاد فأنه يتحتم عليها مزاحمة النفوذ الصيني المتزايد فيها، وهذا السيناريو بحد ذاته يعني تعقيدا للمشهد أكثر مما هو عليه في البلاد. وكذلك الحال في أفغانستان، انسحبت الولايات المتحدة عسكريا من البلاد، والصين تعمل على نشر نفوذها الاقتصادي هناك. وهكذا سيصير الحال مع بقية الدول التي تعاني من ظروف وأزمات مشابه، ساحات للتنافس والصراع بين القوى الكبرى، الولايات المتحدة والصين، ومراكز نفوذهما أيضا.
وفي نفس السياق، بالنسبة لدول الوسط ” أحجار الوسط” كما أسميتها في (الشكل الافتراضي 3). تلك دول لها مصالح كثيرة وكبيرة في دول منطقة ” الأحجار المتحركة” بين الاضداد، لجملة من الأسباب المختلفة، منها جغرافية، اقتصادية، امنية، عسكرية. بشكل عام يمكن اعتبارها، مصالح تتصل بالأمن القومي وميزان القوة للدول الوسط، في مناطق مهمة استراتيجيا لمصالحها، وتحديدا في دول تعيش حالة من الازمات الحادة. وبناءً على ذلك، سيكون على دول الوسط – أحجار الوسط – التحرك وفقا لمصالحها الخاصة في دول غير مستقرة.
أطلقت تسمية ” الأحجار المتحركة” على هذا النوع من الدول، لأن علاقاتها الخارجية غير ثابتة بسبب أوضاعها العامة غير المستقرة، وحجم مستوى النفوذ الأجنبي على أراضيها. ومن المرجح أنها ستتحرك بين نفوذ الصين تارة، ونفوذ الولايات المتحدة تارة أخرى، ومراكز نفوذهما، وكذلك بين دول النفوذ والتأثير في منطقة الوسط أيضا.
ولكن في نفس الوقت إذا تمكنت دولة من تلك الدول، لسبب أو لآخر، على تخطي حالة عدم الاستقرار فيها، لحالة أشبه بالاستقرار أو الاستقرار في مرحلة لاحقة، بواسطة مجموعة من السياسات والإجراءات قد تتبعها الأطراف الدولية المذكورة، وإذا توفرت إرادة سياسية واضحة وقوية ومدعومة شعبيا، فإننا من الممكن ان نكون في حينها أمام سيناريو صعود هذه الدولة الى حالة الدول في منطقة الوسط، ولكن ذلك في حال أنها ستكون مدعومة من دول الوسط. أو أنها تنتقل بالكامل إلى مجال نفوذ واحد من الأقطاب المشار اليها، الأمريكي أو الصيني، إذا تمكن أحدهما من الانتصار وفرض إرادته على الدولة المعنية بالكامل، وذلك حسب ظروف وتطورات الاحداث على ساحة الدولة. وعلى الرغم من صعوبة تحقق الامر، إلا أن الاستثناء موجود في كل نظام وقد يكون جزء منه في أحيان كثيرة، خاصة إذا ما تحدثنا عن صعود دولة من دول (الأحجار المتحركة) إلى مستوى دولة من دول (أحجار الوسط).
اقرأ أيضا للكاتب:
الإتحاد الأوروبي.. بين صعوبة الاختبار وتقرير المصير
فخاخ الاكفان السياسية: كيف تقضي الاحزاب على نفسها.. وتجنب الانتحار السياسي!