في هذه الأيام ولمدة قد لا تقل عن عام كامل يواجه الإتحاد الأوروبي خلالها أصعب فترة منذ نهاية الحرب الباردة الأولى، إذ أن التماسك السياسي لدول الإتحاد أصبح مهددا بموجة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية مدفوعة بسوء الأوضاع الاقتصادية التي سببتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعيات جائحة كورونا التي لم يتعاف العالم منها بعد.
فالاتحاد الذي ظل متماسكا طوال عقود، في مواجهة الأزمات الإقليمية والدولية، يواجه حاليا خطر تفكك التحالف السياسي بين أعضاءه، على أقل تقدير، أو تفكك الاتحاد في أسوء الظروف عبر سيناريو ( انسحاب دول أوروبية من عضوية الاتحاد) والإبقاء على مبدأ التعاون والشراكة الثنائية بين البلدان الأوروبية، وتتزايد المخاوف من هذا السيناريو بوصول أحزاب اليمين المتطرفة إلى السلطة، كما حدث في إيطاليا بفوز جورجيا ميلوني بالانتخابات، وقبلها في فرنسا مارين لوبان، التي حققت نتائج سياسية مهمة في الانتخابات الفرنسية، رغم عدم حصولها على الأصوات المؤهلة لوصولها الى رئاسة البلاد، وكذلك حزب ديمقراطيو السويد اليميني المتطرف الذي حقق هو الاخر نتائج كبيرة، ويُرجح أن يصبح ثاني أكبر حزب سياسي في البلاد، فضلا عن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وتياره السياسي، الذي تربطه علاقات جيدة مع موسكو، أشرت الى احتمالية تفاقم أزمة بين حكومته والاتحاد الأوروبي، تمثلت بتعليق الاتحاد لمساعدات مالية لهنغاريا بقيمة نحو 7.5 مليارات يورو، بسبب ما وصفه الاتحاد بسوء استخدام الأموال الأوروبية وشبهات فساد، ويمكن النظر من زاوية أخرى الى جوهر الازمة القائمة على أنها تتعلق بمواقف أوربان من موسكو وعلاقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل الحرب الروسية الجارية على أوكرانيا وتداعياتها على الأمن الأوروبي.
فمن المرجح ان تشهد الدول الأوروبية أزمات متزايدة تدفع بالشارع الأوروبي للخروج في احتجاجات وتظاهرات شعبية مُنظمة ضد الحكومات الأوروبية مع اقتراب فصل الشتاء وتزايد الازمات الاقتصادية ونقص امدادات الطاقة وغلاء الأسعار.
ينظر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الى تفكك الاتحاد السوفيتي على أنه أكبر خطأ إستراتيجي حدث خلال القرن العشرين، ويتهم الغرب بممارسة دور كبير أدى لانهيار المنظومة السوفياتية، وفي المقابل لم يعد سرا أن بعض الأحزاب السياسية الأوروبية المتطرفة، والمُشككة بالاتحاد الأوروبي، لديها علاقات مع موسكو، وربما تتلقى دعماً روسياً لمواقفها وأنشطتها السياسية في الدول الأوروبية.
فالاتحاد الروسي، يُريد إعادة نشر نفوذه الجيوسياسي في المنطقة الآوراسية، والتحكم في قلب العالم من جديد، وتعتبر موسكو الاتحاد الأوروبي، الحليف لواشنطن، عائقا أمام طموحاتها التوسعية، بالإضافة الى أنه يشكل تهديدا لأمنها القومي من خلال حلف الناتو. وبالتالي فإن تفكك الاتحاد الاوروبي يشكل هدفا استراتيجيا لروسيا، فهي تعتبره رأس الحربة الأميركية، التي تهدد الفكرة الجيوسياسية السائدة في عقيدة روسيا التوسعية، القائلة “بإن لا مكان للنفوذ الأميركي في أوروبا”.
وتستخدم السياسة الروسية في مواجهة الإتحاد الأوروبي، مجموعة سياسات تهدف لإضعاف الاتحاد وتفكيكه، مثل: استخدام الغاز الروسي كسلاح ضد الدول الأوروبية (حلفاء الولايات المتحدة)، ودعم الحركات والأحزاب السياسية المناهضة أو المُشككة بالاتحاد الأوروبي، ودفعها بطرق مختلفة للوصول إلى السلطة ومراكز صناعة القرار في الدول الأوروبية.
وعلى الرغم من أن الصين مدفوعة بنزعة توسعية عالمية أيضا، إلا أنها تبقى الدولة الكبرى الوحيدة التي جاءت بمشروع عالمي ” مبادرة الحزام والطريق” يقوم على أساس التنمية والبناء والازدهار الاقتصادي للبلدان التي تمر فيها الطرق البرية والبحرية للمشروع. وفي جانب أخر، ربما يكون لبكين مصلحة تشترك بها مع حليفها الروسي، فيما يتعلق بـ “تفكيك” الإتحاد الأوروبي، ولكن المؤكد أن مصلحة الصين تتطلب أوروبا خاليه من النفوذ الأميركي، أو أنها قد تُضطر لمزاحمته فيها، تحقيقا لمصالحها المتزايدة، حيث إن مشروع “حزام واحد – طريق واحد” كما يُشار اليه في الاعلام الصيني، المُدرج في دستور البلاد منذ عام2017، يمر عبر دول أوروبية أيضا، وبالتالي فأنها ستكون بحاجة لعلاقات مع الدول الأوروبية توفر لها إمكانية الدخول إلى أسواقها بشكل أكبر مما هو عليه الآن، وإقامة أعمال واستثمارات ضخمة، وذلك يتطلب قرارا سياسيا، وتقاربا سياسيا، على أقل تقدير، لا تعكر صفوه أجواء صراعات النفوذ الدولية، وبما أن الإتحاد الأوروبي يعد حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة، ومركز ثقل وقوة للقطب الغربي بزعامة واشنطن، فإن تقاطع النفوذ والمصالح بين واشنطن وبكين على المدى المتوسط والبعيد على الساحة الأوروبية أمر لا مفر منه، إلا في حال يتوصل الطرفان ( الأميركي – الصيني) لصيغة تفاهم إستراتيجي وتعاون دولي في مسألة إدارة شؤون العالم، وهذا الأمر لا بوادر عملية على حصوله حتى الان!. لذا فإن سيناريو تفكك الإتحاد الحليف لواشنطن، وانتقال الدول الأعضاء إلى حالة الدولة القومية من جديد، والبحث عن مصالح كل دولة بشكل منفرد على أساس الحدود السياسية الوطنية، سيكون هو النموذج الأمثل للصين، لأنه سيفتح الطريق بشكل أكبر أمام طموحاتها الاستراتيجية للدخول إلى أسواق ومناطق ستكون مُتعطشة للاستثمارات الاقتصادية الصينية في مرحلة ما بعد النموذج الأوروبي الحالي (الإتحاد الأوروبي) الحليف للولايات المتحدة.
إن الإتحاد الأوروبي يواجه اختبارا خطيرا للغاية، وهو الأصعب من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة الأولى، مع تزايد التوقعات أن تشهد العواصم والمدن الأوروبية موجة احتجاجات شعبية وتحركات سياسية وتفاعلات مصاحبة لها، في جملتها تشكل تهديدا وجوديا على مستقبل الإتحاد الحالي، وإذا ما تفكك الإتحاد الأوروبي، فإن ذلك سيكون أكبر خطأ إستراتيجي يرتكبه الأوروبيون بحق أنفسهم في القرن الحادي والعشرين، سيُدخل الدول الأوروبية في مرحلة جديدة من الازمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية وعدم الاستقرار الاقتصادي، ولن يكون من السهل أبدا بعد ذلك إعادة انتشال أوروبا من الفوضى والأزمات أو إعادة إنتاج قوتها الحالية، حيث أن قوة أوروبا إستراتيجيا، تأتي من وحدتها الاقتصادية والسياسية ونظام الموائمة الذي تسعى دول الإتحاد من خلاله للوصول إلى حالة التطابق والتكامل للمؤسسات الاوربية في مختلف المجالات.
ان انقاذ الإتحاد الأوروبي لتماسكه ونظامه القائم يمر من خلال إعادة إنتاج دور الإتحاد الأوروبي وسياساته الإستراتيجية وأن تقوم على أساس التوازن في علاقاته مع الدول الكبرى، وبلا تبعية لأي طرف كان، وينبغي على حلفاء الإتحاد الأوروبي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، إدراك واقع أن العالم يتجه بالفعل نحو تعددية الأقطاب، وتشكل مراكز نفوذ جديدة، وان مشاركة أعباء إدارة شؤون العالم مع الاخرين مسألة لابد منها لمصلحة الجميع بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها، وان الاتحاد الأوروبي بإمكانياته الهائلة، بشريا واقتصاديا وصناعيا وتجاريا وعلميا وفكريا وعسكريا وتاريخيا وحضاريا، فإن بإمكانه أن يكون قطبا عالميا، يمارس دوره الخاص الداعم لعالم أكثر تعاون بين عناصره واكثر امن واستقرار.
وبما أننا نعيش سوية في هذا العالم، على اختلاف ادياننا ولغاتنا وثقافاتنا، فكلنا جزء منه، وعدم الوصول إلى نقطة اللاعودة، بصدام الحضارات والأمم والدول، مصلحة مشتركة لجميع البشرية، شعوبا ودول وقادة، وبالتالي فإن عبئ هذا الأمر يجب أن يكون مشتركا هو الاخر، ولا ينبغي لطرف واحد أن يتحمل عبئ إدارة شؤون العالم بأكمله، في وقت يتخذ العالم الحديث مسارا متطورا في أدوات الاتصال، والتواصل، والأفكار، وغيرها. فحتى الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل عبئ إدارة شؤون العالم وحدها، وعليه يجب الجلوس على طاولة حوار بين الدول والتكتلات الكبرى في العالم، ويتم صياغة نظام عالمي أكثر عدلا وميلا للاستقرار، من خلال تغليب نقاط الاتفاق على الاختلاف، واستبعاد فرضيات الصدام واللجوء إلى فرضيات التعاون والشراكة وتقاسم أعباء إدارة شؤون العالم بين الكبار، وتحديد مراكز النفوذ بشكل واقعي، والاخذ على محمل الجد مخاوف الدول على أمنها القومي، وتقديم التنازلات من الجميع للجميع، في سبيل التوصل إلى نموذج النظام العالمي “الأمثل” في إدارة المصالح والنفوذ والعلاقات الدولية.
اقرأ للكاتب أيضا
فخاخ الاكفان السياسية: كيف تقضي الاحزاب على نفسها.. وتجنب الانتحار السياسي!