بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية تشكل النظام العالمي (ثنائي القطبية) من قوتين رئيسيتين في العالم، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. خلال فترة الحرب الباردة ناقشت الإدارة الامريكية داخليا مسألة أي من الطرفين يشكل تهديداً إستراتيجيا على دور ومصالح الولايات المتحدة عالمياً، الإتحاد السوفيتي أم جمهورية الصين الشعبية؟ وذلك لغرض العمل على تحييد أحدهما عن الصراع، بسبب صعوبة المواجهة مع الاتحاد السوفيتي والصين معا في وقت واحد، وخلصت الإدارة الامريكية إلى ان الاتحاد السوفيتي يشكل التهديد الاستراتيجي، وبناءً عليه بدأت عملها لتحييد الصين قدر الإمكان عن الصراع، رغم ما شهدته تلك الفترة من أحداث مثل الحروب في كوريا وفيتنام، ولكن بعد الإصلاح الاقتصادي الصيني انفتحت العلاقات بين البلدين وجرى توقيع اتفاقية خفض الأسلحة النووية واتفاقيات مكافحة الإرهاب.
لم يكن قد مر شهر على انحلال الاتحاد السوفيتي، وفي محاولاته الأولى لتحديد الكيفية التي يجب لروسيا أن تتصرف بموجبها على المسرح الدولي، قال أندريه كوزيريف، أول وزير خارجية لروسيا ما بعد الشيوعية ” إننا بتخلينا عن الرسولية قد مهدنا الطريق للواقعية البراغماتية.. ولقد أدركنا بسرعة أن الجيوبوليتيكا قد حلت محل الأيدلوجيا”. ذلك الطرح الذي أعلنه كوزيريف، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أثبت حقيقة ملموسة في سياسات موسكو اليوم، فـ الاتحاد الروسي، تبنى استراتيجيات تقوم على أساس تحقيق مكاسب جيوسياسية للدولة الروسية بإعادة نشر نفوذها في المجال الحيوي للاتحاد السوفيتي السابق، لكن لا عن طريق الأيدلوجيا كما كان في عهد الدولة السوفيتية.
وفي سياق معارضتهم لتوسع الناتو تجاه الاتحاد الروسي، خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، أصر بعض قادة السياسة الخارجية لروسيا، ومعظمهم من المسؤولين السوفييت السابقين على فكرة الرأي الجيوستراتيجي القائل ” بأن لا مكان لأمريكا في آوراسيا وأن توسيع الناتو يعبر عن رغبة أمريكا بزيادة رقعة تأثيرها”، وبحسب زبغنيو بريجنسكي، في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى، “يعود جزء من الاعتراض الروسي إلى الأمل بأن أوروبا الوسطى يمكن أن تعود في يوم ما إلى فلك نفوذ موسكو الجيوسياسي بمجرد أن تستعيد روسيا عافيتها”.
أما في الوقت الحاضر، فالصين وروسيا يجدان في تحالفهما ضد الولايات المتحدة وحلفائها، مصلحة استراتيجية عليا، رغم شدة التنافس بينهما في ملفات ومناطق عدة، لكن شعورهما بالتذمر المتزايد ضد ما يصفونه بـ “الهيمنة الغربية” ونظرتهما المشتركة لعالم متعدد الأقطاب يؤجل أي شكل من أشكال الاحتدام، وقررا العمل سوية على إيجاد عالم متعدد الأقطاب ومراكز نفوذ جديدة.
ومن هنا نبدأ فهم ما يجري حولنا في عالم اليوم، فنطرح فرضية وسؤال، فالفرضية تقول: أن العالم متجه نحو تعددية الأقطاب، على شكل قوة آوراسية بقيادة صينية – روسية، تتطور تفاعلاتها في المستقبل لتشكل قطب عالمي عابر للآوراسية، يعمل من خلال مراكز نفوذ مُنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، تتفاوت قوة تلك المراكز، لكنها تلعب أدوار ووظائف محددة في مجالها الإقليمي، تخدم مصالح القطب الجديد العابر للآوراسية، في مقابل قطب امريكي غربي ومراكز نفوذ تابعة له. أما السؤال، ماهي المضلة التي ستقود الى بناء قطب عالمي جديد، أطرافه، أدواته، سياساته، التي سيتبعها في فرض وجوده على الطرف الاخر، الأمريكي الغربي؟.
صراع النُظم والايدلوجيا
يقول زبغنيو بريجنسكي، مفكر إستراتيجي أميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس جيمي كارتر، “أن الديمقراطية غير ملائمة للتعبئة الإمبراطورية”. وفي محاولة التوصل لمقاربة الفكرة مع ما يجري بين روسيا والغرب، نجد ان استراتيجية روسيا في إعادة فرض نفوذها على أوروبا حققت نجاحات كبيرة، بداية من عملياتها العسكرية ضد جورجيا وأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، وصولا إلى غزو أوكرانيا وقطع الغاز الروسي عن أوروبا، ويمكن إرجاع نجاح موسكو في تحقيق مكاسب في صراعها مع الغرب، إلى مركزية “صناعة القرار” في موسكو. في المقابل، يرى بعض المراقبين ان نتائج سياسات الغرب في مواجهة روسيا، يمكن وصفها بـ “البطيئة” وأن الحكومات الأوروبية أصبحت مهددة بالعجز والفشل، فخياراتها لم تتبن سوى “سياسة العقوبات” خلال السنوات الماضية، في وقت حذر كبار المفكرين والاستراتيجيين الاوربيين من نوايا روسيا ضد أوروبا. فالسياسات والقرارات التي تتخذها الحكومات الأوروبية تعتمد بالدرجة الأساس على الناخب المحلي والبرلمانات التي يختارها الشعب، وبالتالي فإن صناعة القرار فيها تعد عملية معقدة تستغرق الكثير من الوقت والإجراءات البيروقراطية. والمفارقة في هذا الشأن أن موسكو تراهن على الديمقراطية الأوروبية التي أوصلت خصومها الى مراكز صناعة القرار الحكومي أن تكون هي نفسها الديمقراطية التي ستطيح بهم من خلال الشارع الأوروبي الغاضب بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، ارتفاع الأسعار، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وأزمة الطاقة التي بدأ المواطن الأوروبي يستشعر مشاكلها مع اقتراب فصل الشتاء. وتراهن موسكو أيضاً، على أن يكون البديل للحكومات الأوروبية الموالية لواشنطن، أحزاب سياسية أوروبية تعمل ضد الاتحاد الأوروبي بشكله السياسي والاقتصادي الحالي.
وعلى الرغم من أنها لا تمتلك أسس الفكرة الأيدلوجية بشكلها الحالي: “مواجهة النفوذ الغربي”، إلا أنها لا تقل أهمية عن أيدلوجيا الاتحاد السوفيتي، في قدرتها على حشد مواقف الدول المتضررة من السياسات الغربية، حيث استطاعت أن تجمع دول عدة بينها خلافات عميقة في مسائل مختلفة، تحت مضلة واحدة وتؤسس لرؤية مشتركة لعالم متعدد الأقطاب ومراكز نفوذ جديدة. ولا نستغرب في المستقبل إذا سمعنا مفكرين يُنظرون لـ (مواجهة النفوذ الغربي) على أنها أيدلوجيا فكرية أو شبه أيدلوجيا.
تكتل آوراسي في مواجهة النفوذ الغربي
تعتبر الإرادة السياسية وقدرات الدولة وإمكانياتها عوامل رئيسية في قدرتها على تحديد وإدارة مصالحها في التفاعلات الدولية، لكن ذلك لا يكفي للحديث عن (قطب عالمي) إذ أنه لا يُحدد ملامح وطبيعة النظام الذي يتم العمل به أو من خلاله لتحقيق الأهداف التي يتبناها، وكذلك لا يمكن تصور ظهور قوة عالمية منافسة من دون ان تكون لها مضلة ورؤية جيوسياسية استراتيجية واسعة وواضحة، وهياكل اقتصادية، وأمنية، وعسكرية.
ومن هنا يمكن النظر بجدية إلى (منظمة شنغهاي للتعاون) القوة الآوراسية الصاعدة على أنها نواة (لقطب عالمي عابر للآوراسية) يتشكل في مرحلة من المراحل الزمنية نتيجة مجموعة من التفاعلات الدولية، ويجذب إليه مجموعة من الدول يجدون مصلحة لهم في النظام الجديد. ويمكن ببساطة ملاحظة خطاب منظمة شنغهاي للتعاون على أنه موجه بالدرجة الأساس للدول التي يجمعها شعور بالخيبة والتذمر من ” الهيمنة الغربية” وترى مصالحها في نظام عالمي متعدد الأقطاب تدور في فلكه مراكز نفوذ متعددة، وهو هدف رئيسي تسعى إليه المنظمة.
منظمة شنغهاي للتعاون
تأسست منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) عام 1996 بوصفها تكتلا إقليميا أوراسيا باسم “خماسية شنغهاي”، يضم الصين، روسيا، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، وبعد انضمام أوزبكستان، الهند، باكستان، إيران، أصبحت المنظمة تضم نصف سكان الأرض، إذ تكمن قوتها في كونها تمتد جغرافياً من الشمال إلى الجنوب، من القطب الشمالي إلى المحيط الهندي، ومن الشرق إلى الغرب من ليانيونجانج في الصين إلى كالينينجراد في الاتحاد الروسي.
وتشغل مجموعة من الدول صفة المراقب، مثل: أرمينيا، أذربيجان، بنغلاديش، أفغانستان، بيلاروسيا، منغوليا. كما تقدمت سوريا بطلب للحصول على نفس الصفة. وفي عام 2008 أنشئت المنظمة منصب شريك الحوار، وعرف النظام الداخلي للمنظمة شريك الحوار على أنه دولة أو منظمة تتشارك أهدافها ومبادئها مع منظمة شنغهاي للتعاون، وترغب في إقامة علاقات شراكة معها. وحصلت بالفعل كل من كمبوديا ونيبال وسريلانكا على صفة شريك الحوار، ومؤخراً انضمت كلا من مصر والإمارات والكويت والبحرين وقطر، كشركاء في الحوار، بينما تقدمت في وقت سابق كل من إسرائيل والعراق وجزر المالديف وأوكرانيا وفيتنام بطلب للحصول على الصفة ذاتها.
وفي عام 2012 منحت تركيا، وهي دولة عضو بحلف الناتو، صفة شريك الحوار خلال قمة المجموعة التي عُقدت في بكين، وفي عام 2016 مُنحت أنقرة رئاسة نادي الطاقة لمنظمة شنغهاي للتعاون للفترة 2017، مما جعل تركيا أول دولة ترأس ناديا في المنظمة دون حصولها على العضوية الكاملة.
في سياق التطورات الجارية على الساحة العالمية، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والاصطفاف الغربي في مواجهة روسيا عسكريا عبر دعم الحكومة الأوكرانية، واقتصاديا بفرض عقوبات مشددة على موسكو، فمن المرجح أن يستمر التكتل الآوراسي بزعامة الصين وروسيا، في توسعه بضم دول جديدة بين صفوفه، وكذلك توطيد العلاقات والشراكات الاقتصادية والأمنية والسياسية مع دول أخرى من خارج المنطقة الاوراسية في سبيل تطوير قوة دولية آوراسية، من خلال زيادة أدوات القوة وإقامة مؤسسات اقتصادية ومالية وأمنية وسياسية بعيدة عن النفوذ الأميركي- الغربي. ويمكننا ملاحظة حدوث ذلك الان، فالمنظمة أصبحت ملاذا امن للدول التي تعاني من عقوبات أميركية غربية، في محاولتها البحث عن مساحات جديدة تتحرك من خلالها للتخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية، مثل إيران. وكذلك دول تعاني من علاقات سياسية سيئة مع واشنطن انعكست على اقتصاداتها المحلية وعلاقاتها مع العالم ويصفها الغرب بالدكتاتورية مثل: كوريا الشمالية – فنزويلا – كوبا، وغيرها. بل ونجد في صفوف الدول التي تتمتع بعضوية كاملة بالمنظمة مثل الهند، وهي حليف إستراتيجي لواشنطن، أو دول شرق أوسطية حليفة لواشنطن والغرب، انظمت للمنظمة بصفة مراقب أو شريك في الحوار، مثل: السعودية ومصر والامارات وإسرائيل، تلك دول ساعية لتحقيق مصالح اقتصادية وتنموية وجيوسياسية، وكذلك لتكريس حالة (التوازن) في ميزان علاقاتها الدولية مع التحالفات الكبرى، في محاولة منها لتجنب الانجرار الى طرف على حساب الطرف الآخر في الصراع الدولي الحاصل.
الحالة الجيوسياسية
روسيا
نزعة روسيا في إعادة إحياء دورها الجيوسياسي الحاكم في آوراسيا وموقعها في النظام العالمي، من خلال عقيدة ” العالم الروسي” واستراتيجيات تطبيقها على طريقة الرئيس فلاديمير بوتين، اصطدمت مرارا وتكرارا بنزعة توسعية للاتحاد الأوربي والناتو، بدعم من واشنطن، على حدود الاتحاد الروسي، خاصة في أوكرانيا، حيث تبرز أهمية البلاد في النزعة التوسعية الروسية من خلال ما أجمع عليه كبار المفكرين الاستراتيجيين في الفكرة الجيوسياسية القائلة: “لا يمكن لروسيا إعادة إحياء دورها الجيوسياسي الآوراسي الامبراطوري من دون السيطرة على أوكرانيا، وعدى عن ذلك يقتصر دورها على آسيا”.
علاوة على ان الروس يعتبرون توسيع النفوذ الغربي نحو دول الاتحاد السوفيتي السابق، يشكل تهديداً لأمنهم القومي. وعليه اتخذت موسكو طريق المواجهة مع الغرب عبر التدخل العسكري المباشر وغير المباشر كما حدث في جورجيا والقرم وأوكرانيا وسوريا، وربما نشهد تدخلا روسيا آخر في مناطق أخرى مستقبلاً، وكذلك استخدام روسيا لغازها الطبيعي كسلاح في صراعها مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي واجهته الولايات المتحدة وحلفائها بفرض مزيد من العقوبات على روسيا (سياسة العقوبات).
الصين
” الصين قوة عالمية في الانتظار” هكذا وصفها خبير جيوسياسي إستراتيجي أوربي في حوار سابق مع مجلة جي فوكس الدولية، فهي مدفوعة أيضاً بنزعة توسعية من خلال استراتيجية النفاذ الى الأسواق الدولية وتكريس سيطرتها اقتصاديا وتجاريا على الأسواق العالمية، الحالة التي سببت الخوف لدى أوساط سياسية امريكية من المستقبل على النفوذ الأميركي من النفوذ الاقتصادي الصيني المتزايد، ودفعت بالإدارة الامريكية في عهد ترمب إلى فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على الصين، ردت عليها الأخيرة بعقوبات مماثلة على الولايات المتحدة.
أوجه التشابه بين الصين وروسيا لا تقتصر على طبيعة صناعة القرار السياسي، رغم ان (مركزية صناعة القرار) في البلدين دفعت بشكل كبير الى تطوير التعاون بينهما وإيجاد أرضية مشتركة يقفون عليها في مواجهة النفوذ الأميركي الغربي. فالصين مدفوعة بنزعتها التوسعية عالميا، من خلال استخدام قوة ناعمة، اقتصادية وسياسية، لنشر نفوذها في مناطق وساحات محسوبة على الغرب، وربط مصير تلك الدول، اقتصاديا وتجاريا وتنمويا على المدى البعيد بالصين، التقت مع النزعة الروسية التوسعية، على طريقة الرئيس بوتين، باستخدام القوتين معا (قوة ناعمة – قوة صلبة)، في إعادة نشر نفوذها آوراسيا، والهدف الاستراتيجي للطرفين (الصيني – الروسي) في نهاية المطاف، إزاحة الولايات المتحدة من موقعها كـ (قطب أوحد) يتولى إدارة شؤون العالم.
ولكن هذا القول لا يلغي فرضية ان الصين قد تلجأ الى استخدام القوة الصلبة مستقبلاً، في حدود حماية أمنها القومي، كما هو الحال بالنسبة للأزمة مع تايوان، والتي تعدها بكين واحدة من الأسباب الرئيسية التي تدفعها الى مواجهة الولايات المتحدة بسبب دعم واشنطن لتايوان، وكذلك دعمها لمجموعة من الدول الإقليمية في مواجهة النفوذ الصيني في آسيا.
الصين لم تتبن استخدام القوة الصلبة في نشر نفوذها، ولكن من المتوقع في المستقبل أن تعمل على نشر قوات وقواعد عسكرية لها في الخارج، مثلما فعلت في جيبوتي، لتأمين مصالحها الاقتصادية ومن خلال ذلك تُكرس نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري تدريجيا، فعلى سبيل المثال، ينطبق هذا السيناريو على الدول الواقعة ضمن مسار مشروع “مبادرة الحزام والطريق”، ولن تنشر قوات عسكرية إلا بعد الاتفاق مع حكومات تلك البلدان المستفيدة من الدعم الاقتصادي والتنموي الصيني، وفي جانب منه قد تلعب المساومات السرية دوراً كبيراً للضغط على حكومات تلك البلدان لقبولها نشر قواعد عسكرية على أراضيها، بسبب عدم تمكنها من سداد “ديون” مالية للصين.
يعود أصل الاختلاف بين الحليفين (الصيني – الروسي) في كيفية إعادة نشر النفوذ على المستويين الاوراسي والعالمي، إلى طبيعة مُتبنيات كل منهما بالتعامل مع الحالة الدولية، ونشر النفوذ، وإدارة النزعة التوسعية، ومواجهة القطب الأميركي الغربي في العالم. ويمكن القول إن هناك نوع من التوافق إلى حد ما على شكل توزيع أدوار، فالصين تبرر غزو روسيا لأوكرانيا، وموسكو تدعم خيارات الصين بالتعامل مع تايوان، وبكين هددت سابقاً بإمكانية اتخاذها الخيار العسكري ضد تايوان إذا قررت الاستقلال. وكلاهما، الصين وروسيا، يبرران السلوكيات العدائية الإيرانية في الشرق الأوسط وسعيها للحصول على القدرة النووية.
الهند
يمكن تشبيه سياستها الخارجية بالرمال المُتحركة، فهي مُتغيرة باستمرار، وبالعودة إلى تأريخ علاقات الهند مع الدول الكبرى، نستخلص أن دلهي سلكت نهجا خاصا بها، تارة تتجه نحو الاتحاد السوفيتي، وتارة أخرى نحو الولايات المتحدة، ثم علاقات أقل ما يقال عنها مميزة مع موسكو، وشراكة إستراتيجية مع واشنطن. ترجمت الهند سياستها الخارجية، المُتحركة بين الأضداد، من خلال انضمامها لتحالفات آوراسية وغربية متضادة، فعلى سبيل المثال، عضويتها في تحالف الحوار الأمني الرباعي “كواد” بزعامة الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الصيني، وعضويتها في مجموعة ” بريكس” بزعامة روسيا والصين، وعضوية ” منظمة شنغهاي للتعاون” لمواجهة النفوذ الأميركي الغربي في العالم.
سياسة خارجية مليئة بالتناقضات كما تبدو للبعض، وهي ليست كذلك عند فهم أسباب دلهي. فنلاحظ ان دلهي تنقلت في سياستها الخارجية وتحالفاتها بين موسكو وواشنطن، في محاولة منها لمسك العصا من المنتصف، لسببين رئيسيين: الأول، كسب الدعم من الأقوى في إدارة نزاعاتها الحدودية والديموغرافية مع الصين وباكستان، وهي مسألة جوهرية تمس الهند بأمنها القومي المباشر، والثاني، نزعة الهند لزعامة منطقة جنوب آسيا. بمعنى آخر، الهند تحاول بناء تحالفاتها مع القوى الكبرى لإدارة نزاعاتها مع الصين وباكستان، بشكل أو بآخر.
إيران
نزعة طهران التوسعية في الشرق الأوسط وافريقيا، تحت مضلة التشيع السياسي على الطريقة الإيرانية، التي جاءت بها الثورة الإسلامية عام 1979 وتستخدم عقيدة تصدير الثورة الى الدول الإسلامية، وخاصة لدول الشرق الأوسط الواقعة ضمن مجالها الحيوي، لطالما اصطدمت مع المصالح الغربية، فهي تُهدد بشكل مباشر الامن القومي لحلفاء واشنطن والغرب. علاوة على برنامجها النووي، الذي واجهته الولايات المتحدة بحزمة من العقوبات المشددة على إيران، دفع بطهران نحو القوة الاوراسية الصاعدة، وانضمامها لمنظمة شنغهاي للتعاون، إذ أنها أكثر الدول المعادية للغرب تعطشاً للموارد المالية والاقتصادية التي توفرها لها الأسواق والاستثمارات الاوراسية في ظل عقوبات اقتصادية غربية أرهقت الدولة الإيرانية وأوصلتها الى حافة الانهيار. بالإضافة الى ان انتعاش الاقتصاد الإيراني يعني قدرة طهران على الاستمرار في سياساتها العدائية في الشرق الأوسط، ودعمها لجماعات وميليشيات مسلحة تحقق لها مكاسب جيوسياسية كبيرة.
الحالة الاقتصادية
بلغ حجم اقتصادات الدول الأعضاء في المنظمة، في العام 2020، نحو 18.4 تريليون دولار، بينما قفزت التجارة البينية للمنظمة إلى 6.2 تريليون دولار خلال نفس الفترة. ومنذ تأسيس المنظمة اقترحت الصين هدفاً طويل الأجل لإنشاء منطقة للتجارة الحرة بين الدول الأعضاء، إضافةً إلى اتخاذ تدابير أخرى لتحسين تدفق السلع في المنطقة. وفي عام 2006، أسست المنظمة أيضاً ما يعرف بـ “اتحاد البنوك المشتركة بين البنوك” (SCO IBC) بهدف توفير التمويل والخدمات المصرفية للمشاريع الاستثمارية التي ترعاها حكومات الدول الأعضاء في المنظمة.
وبينما تواجه الدول الأعضاء حزمة من العقوبات الغربية على الاقتصاد والتجارة، فقد أعلن الرئيس الروسي في وقت سابق، أن روسيا والصين تسعيان لتطوير عملة احتياطية جديدة مع دول “بريكس” الأخرى، ضمن جهودها لخلق توازن دولي في النظام الاقتصادي العالمي. ووفقاً لتقرير نشره موقع Business Insider الأمريكي أفاد بأن بنك الشعب الصيني قد بدأ بالفعل في بناء احتياطي بـ “اليوان” مع خمس دول أخرى بالتعاون مع بنك التسويات الدولية، ضمن المساعي الصينية لبديل فعال يحلّ محلّ صندوق النقد الدولي الذي يهيمن عليه الدولار. ومن بين المبادرات الساعية لإيجاد بدائل عن الأسواق والمؤسسات الغربية، فقد اقترحت إيران رسمياً في وقت سابق على المنظمة اعتماد عملة نقدية موحدة لتسهيل التبادل التجاري بين الدول الأعضاء.
الحالة العسكرية
منذ تأسيس المنظمة، كان التعاون الأمني أحد المهام الرئيسية لمنظمة شنغهاي للتعاون، وصرحت بأنها تعمل على مكافحة الإرهاب ومواجهة التطرف والحركات الانفصالية، والتصدي لتجارة الأسلحة والمخدرات. وتضم في عضويتها أربع قوى نووية (الصين، روسيا، الهند، باكستان) وقوة خامسة شبه نووية، إيران، وثاني وثالث ورابع أقوى الجيوش في العالم، وهي تباعاً: الصين وروسيا والهند.
في عام 2007 وقعت دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي (تحالف عسكري حكومي دولي آوراسي، يضم دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وتعود أصولها إلى القوات السوفيتية المسلحة) وتضم كلا من بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزيا وطاجكستان وأوزبكستان بالإضافة إلى روسيا، أكثر من 20 وثيقة مشتركة، من أبرزها ربط منظمة معاهدة الأمن الجماعي بمنظمة شنغهاي للتعاون الأمني التي ترأسها الصين. وتجري المنظمة تدريبات عسكرية مشتركة بانتظام بين الدول الأعضاء، وكانت الأولى في عام 2003 حيث جرت المرحلة الأولى في كازاخستان والمرحلة الثانية في الصين. ومنذ ذلك الحين، تعاونت الصين وروسيا في مناورات حربية واسعة النطاق في الأعوام 2005 و2007 و2009، برعاية منظمة شنغهاي للتعاون. وفي العام 2007، شارك أكثر من 4 آلاف جندي في تدريب عسكري مشترك، عُرف باسم “مهمة السلام”، جرى في روسيا قرب جبال الأورال. وكذلك في عام 2021 أجرت المنظمة مناورات عسكرية بمشاركة روسيا والصين، الهند وكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وقيرغيزستان، وباكستان، وبيلاروسيا.
الخلاصة
على الرغم من وجود خلافات عميقة بين الدول الأعضاء، والتي تمس في جوانب عديدة منها مسائل تتعلق بالأمن القومي، على سبيل المثال، الحالة بين الهند وباكستان، الهند والصين، روسيا والصين، وخاصة فيما يتعلق ببسط النفوذ على دول اسيا الوسطى، إلا أن شبه الأيدلوجيا، التي يحاول الأعضاء الكبار (الصين وروسيا) تكريسها بين الدول الأعضاء، المتمثلة بـ “مواجهة النفوذ الغربي “تُعد أساس الخطاب السياسي للانفتاح على دول أخرى لهدف توسيع التحالف بضم أعضاء وشركاء جدد الى التكتل الاوراسي.
يرى بعض المحللين أن التحالف الآوراسي لن يكون قادرا على تشكيل (قطب عالمي) في مواجهة الغرب بسبب عمق الخلافات بين أعضاءه، والتي قد تعود الى الواجهة في مرحلة ما بعد إزاحة الولايات المتحدة من موقعها العالمي، لكن لا ينبغي التقليل من شأن أن عوامل نجاحه موجودة أيضاً، وذلك في حال استطاع الأعضاء الكبار المؤسسين للتكتل الآوراسي (الصين وروسيا) من صياغة خارطة توزيع نفوذ بين الدول الأعضاء تكون مُرضية للجميع، وهذا وارد في خطاب منظمة شنغهاي للتعاون، الذي تحدث عن “مراكز نفوذ جديدة”. ويمكننا فهم ذلك، بأنها ستعمل على توسيع التحالف الآوراسي، بضم دول جديدة، وتتحرك من خلال توزيع الأدوار بين الأعضاء، فعلى سبيل المثال، “الصين – اقتصاديا” و”روسيا – أمنيا”، وتوكل مهام ووظائف لبقية الأعضاء يمارسونها في أقاليمهم الخاصة، تصب في مصلحة التكتل الآوراسي، بمعنى آخر، يمكن النظر بجدية الى منظمة شنغهاي للتعاون، على أنها قد تكون ( نواة) لقطب عالمي عابر للآوراسية، يتشكل تدريجيا عبر مجموعة من التفاعلات الدولية، ويتم عبر مرحلتين: الأولى، المرحلة الآوراسية، يتم فيها توسيع التكتل وتطوير أدواته وسياساته الداعمة للأعضاء والبُنية الهيكلية للتكتل، تتزايد خلالها الشراكات الاقتصادية والتقارب السياسي بين التكتل الاوراسي ودول أخرى من خارج المنطقة الاوراسية، ويقود العملية بشكلها الموسع كلا من الصين وروسيا، وتفضي في نهاية المطاف إلى توسيع التحالف الاوراسي إلى مابعد الاوراسية، عندها يبدأ النظر الى قطب عالمي عابر للآوراسية، يتشكل من (قلب المركز) الصين وروسيا، ويتحرك من خلال مراكز نفوذ مُنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، تمثلها الدول الأعضاء وتدور في فلك القطب، وتعمل لصالحه، خاصة وأن هكذا تحالف سيحقق مكاسب اقتصادية وتجارية وتنموية ضخمة للدول الأعضاء، بالإضافة للدور الجيوسياسي الذي يمارسونه في المجالات الإقليمية.
رسم توضيحي افتراضي يُبين ديناميكية عمل نظام التكتل الآوراسي، ونظام القطب العابر للآوراسية في المستقبل. مع الاخذ بنظر الاعتبار، حالة تركيا في هذا النظام خلال المرحلة الاوراسية، فهي رغم كونها عضو بالناتو منذ عام 1952، إلا أنها حظيت برئاسة نادي الطاقة التابع لمنظمة شنغهاي للتعاون، رغم أنها لا تتمتع بصفة العضو الكامل في المنظمة حتى الان، وهي شريك في الحوار وتتمتع بعلاقات مميزة مع كل الأطراف الدولية. وفي سبيل فهم الرسم التوضيحي نضع التعريفات التالية:
مدار الفلك: هو المجال الذي تتحرك جميع الدول المشاركة في النظام الجديد وفق وظائف ومهام توكل إليها في مجالها الإقليمي، وتصب في مصلحة التكتل الآوراسي، و/أو نظام القطب العالمي العابر للآوراسية في المستقبل.
قلب المركز: كما هو موضح يتشكل من الصين وروسيا، يمارس كلا منهما مهام متفق عليها خاصة فيما يتعلق في إدارة العلاقة مع الدول (الأعضاء) ضمن حدود محددة سلفاً ومتفق عليها بين القوتين الكبيرتين الصين وروسيا (توزيع الأدوار) بينهما، وكذلك للقوى (الدول الأعضاء) في هذا النظام على المسرح العالمي من خلال قيامهم بأدوار إقليمية في مجالهم الحيوي.
مراكز النفوذ: هي مراكز يتحرك من خلالها التكتل الاوراسي عبر تفاعلات وأنشطة متعددة المجالات، وهي نفس الالية التي يتحرك بها، في مرحلة لاحقة، نظام قطب عالمي عابر للآوراسية، حيث إن دول (مراكز النفوذ) تدور حول مدار واحد، فلك نفوذ التكتل الآوراسي أو القطب العابر لآوراسيا، وفق ديناميكية توزيع أدوار ووظائف محددة للدول في مجالها الحيوي الاقليمي، ويتم الاتفاق عليها سلفا بين دول “قلب المركز” و دول “مراكز النفوذ”، وفق مفهوم “توزيع النفوذ”، وبعض الدول تكون لها أدوار اخرى على الساحة الدولية أيضاً، مع التشديد على أن الدول الموضحة ضمن (مراكز النفوذ) يزيد عددها في الحقيقة عن الموضح بالرسم الافتراضي، و تمت الإشارة الى بضعة دول بهدف توضيح كيفية عمل النظام فقط.
توقعات
في تعليقه على الانتقال الى عالم متعدد الأقطاب، تحدث محلل الشؤون الاستراتيجية في مجلة جي فوكس الدولية، قائلاً: ” العالم لا يزال في مرحلة انتقالية الى نظام عالمي ستطرأ عليه الكثير من التغيرات، وأن الانتقال عبر صعود قوة آوراسية على الساحة العالمية، سيتم عبر مرحلتين رئيسيتين: الأولى هي المرحلة الاوراسية، بزعامة الصين وروسيا، وسنشهد في الفترة المقبلة تطوير ( منظمة شنغهاي للتعاون) من خلال توسيعها بضم أعضاء جدد للمنظمة، وتطوير هياكلها العسكرية والاقتصادية، ولا أستبعد تشكيل تحالف عسكري يكون على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يتبنى سياسة الدفاع الجماعي والتصدي للتدخلات الخارجية ( الغربية) على الدول الأعضاء، ورغم أنها ستكون خطوة تصعيدية ذات أبعاد جيوسياسية و جيوستراتيجية خطيرة جداً على المسرح العالمي، لكنها محتملة الحدوث في عالم اليوم، خاصة وأن روسيا تخوض حرب في أوكرانيا في مواجهة الغرب، والصين هددت بالخيار العسكري ضد تايوان إذا اختارت الاستقلال”.
وخلال المرحلة الاوراسية يستمر التكتل الاوراسي بتطوير علاقاته مع دول أخرى من خارج المنطقة الاوراسية، قريبة في توجهاتها السياسية مع الصين وروسيا، ويلجأ التكتل الاوراسي الى اقامة شراكات اقتصادية وتجارية مع تلك الدول وتقديم الدعم المالي والسياسي والدخول الى أسواقها بهدف الاستثمار والتنمية وتوطيد العلاقات لغرض دمجها في تكتل عالمي عابر للاوراسية فيما بعد خلال مرحلة لاحقة أكثر تطورا وتوسعا على المسرح العالمي، وهي المرحلة الثانية: مرحلة مابعد الاوراسية، قطب عالمي عابر للآوراسية.
وتوقع محلل الشؤون الاستراتيجية في جي فوكس الدولية، ان يتحرك التكتل الاوراسي لضم كلا من كوريا الشمالية وأفغانستان الى منظمة شنغهاي للتعاون، كما سيتم توطيد العلاقات مع فنزويلا وكوبا ودول أخرى في أمريكا اللاتينية وافريقيا واسيا. مضيفا، ان أسباب الدول ستكون متنوعة، لتخفيف ضغط عقوبات أمريكية، أو البحث عن مصالح اقتصادية وتجارية جديدة مع قوة صاعدة دوليا، أو بسبب نزعة لممارسة دور جيوسياسي معين، ألخ.
وربط محلل الشؤون الاستراتيجية، ما يجري بالاستراتيجيات التي تتبعها كلا من بكين وموسكو، خاصة استراتيجية الصين (مبادرة الحزام والطريق) التي أدرجت ضمن الدستور الصيني عام 2017، حيث وضعت دول عدة في مسارها، وبالتالي فإن التحالفات المستقبلية التي تسعى اليها كلا من (الصين وروسيا) ستشمل تلك الدول بالدرجة الأساس، وكذلك ستعمل على توطيد العلاقات مع الدول المجاورة لها، التي تؤثر وتتأثر في مسار المشروع، وسيتم دمجهم بشكل او اخر في مشاريع مشتركة لاحقا.
وشرح محلل الشؤون الاستراتيجية شكل النظام الجديد في المرحلة الاوراسية والمرحلة اللاحقة ما بعد الاوراسية، بأنه يتشكل من (مركز) ويكون في قلب المركز الصين وروسيا، ويتحرك من خلال مراكز نفوذ جديدة تنتشر في مناطق مختلفة من العالم، تمثلها الدول الأعضاء، حيث توكل إليها مهام ووظائف محددة في مجالها الحيوي الإقليمي، وتعمل لصالح التكتل الاوراسي ولاحقا القطب العابر للاوراسية لتحقيق مصالح النظام وأعضاءه وشركاءه.
وقال أيضا، من المرجح ان تعمل الصين وروسيا والدول الحليفة لهما على دعم مشروع إطلاق عملة نقدية موحدة أو دعم اليوان الصيني في التعاملات الاقتصادية والتجارية بين الدول المنضوية تحت مضلة (منظمة شنغهاي للتعاون) “التكتل الاوراسي” وقد يمتد العمل بها الى ما بعد الاوراسية أيضاً.
اقرأ أيضا:
عصر الاستقطاب: الهند وتحديات الاختيار!
بحث علمي مهم جدا وأود هنا تثمين هذه الجهود مضيفا ان المرحلة المقبلة ستشهد توترات إقليمي أخرى بعيدا عن اوراسبا واعني هنا أمريكا اللاتينية ويبكون لهذا الإقليم علاقات خاصة مع شنغهاي بسبب العلاقات الخاصة بين روسيا والصين وكويا
نأتي أهمية هذا الإقليم لقربه من الولايات المتحدة
تحياتي
سرمد عبد الكريم