على ما يبدوا ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي لم يكن مجرد “صدفة” اقرها استفتاء يونيو عام 2016، في وقت تراجع فيه التأثير والنفوذ الأمريكي كثيراً في ملفات دولية عديدة حتى وصل حد الضعف في بعض القضايا، وفي واقع الأمر ليس ضعفاً بقدر ما هو عبئ لم تعد واشنطن قادرة على تحمله وحدها، أزمات الشرق الأوسط وتحديات كبيرة في القارة الاسيوية، واستياء متزايد لدى دول كبرى مثل الصين وروسيا بسبب سياسات واشنطن وحرصها على موقع الزعامة عالمياً!، وما قد يترتب على ذلك الاستياء بإيجاد تحالفات دولية مضادة للمصالح الامريكية والغربية.
عالم متعدد الاقطاب
من المرجح ان نشهد تزايداً للدور البريطاني في قضايا دولية مختلفة، على عكس توقعات فترة ما قبل وبعد “بريكست” مباشرة، وكان أبرز مؤشر على ذلك، تجسد في موقف لندن الحازم بدعمها أوكرانيا ضد روسيا في الحرب الاخيرة، و ليس بالضرورة الاعتقاد ان انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي يقودها لإنتاج استراتيجيات تتقاطع مع مصالح الاتحاد الأوربي على المستوى العالمي، وعلى العكس من ذلك، فك الارتباط مع الاتحاد الأوربي عضوياً من شأنه ان يمنح لندن مزيد من الحرية في انتاج استراتيجيات عالمية خاصة بها، خاصة في مجال الامن والاقتصاد والتحالفات الدولية، وفي ذلك، يمكن القول انه بمثابة إعادة تنشيط لدور التحالف الأنجلو- أمريكي وإلى جانب ذلك، الإتحاد الأوربي منظومة قوية متقدمة في مجالات الاقتصاد والإدارة والتكنلوجيا والتعليم والصحة والصناعات العسكرية وغيرها، رغم ما يعانيه الاتحاد من أزمات مُركبة، إلا أنه يبقى بعيد عن سيناريو التفكك، خاصة وان الأجيال الشابة في أوربا هم الأكثر انصهاراً بالفضاء الأوربي، فضلاً عن ان الحرب الروسية على أوكرانيا كرست ضرورة “الاتحاد” والتماسك أكثر من أي وقت سابق، وها هم السويد وفنلندا يختاران الانضمام لحلف الشمال الأطلسي ( الناتو) بعد تخليهما عن سياسة الحياد وعدم الانضمام لأحلاف عسكرية. يمكن القول اننا قد نشهد عودة تدريجية “لبريطانيا العظمى” مستقبلاً. ” محور واحد بأقطاب قوية متعددة”، الولايات المتحدة – بريطانيا العظمى – الاتحاد الأوربي – اليابان وكوريا الجنوبية – وشركائهم في العالم.
أما على الجانب الآخر، آوراسيا، وتحديداً روسيا والصين، تجمعهما حالة استياء مبررة في كثير من الأحيان، بسبب احتكار الولايات المتحدة لزعامة العالم وفرضها سياساتها ومصالحها على الجميع، وقاموا بترجمة ذلك الاستياء لمصالح استراتيجية مشتركة جمعت البلدين في مجالات عديدة طوال سنوات. موسكو اثبتت للجميع انها ماضيه في سعيها فرض نفسها كقوة عالمية من جديد، بداية منذ دعمها عسكرياً وسياسياً لحليفها السوري خلال فترة الصراع على الأراضي السورية، ومواجهة موسكو للولايات المتحدة والغرب في ساحات دولية مختلفة، ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، ثم الغزو العسكري لأوكرانيا ودعمها الانفصاليين شمال البلاد على اقامة دولتين موالية لها.
في هذا السياق، وفي حوار سابق أجرته مجلة جي فوكس الدولية مع فاسيلي سيميليانو، رئيس الجمعية الجيوسياسية (أيون كونيا) ورئيس تحرير مجلة جيوبوليتيكا، يقول: ” ان روسيا هي قوة في “طور التكوين”، نظراً للدمار الذي لحق بقوة الاتحاد السوفيتي بعد انهياره، أما الصين فهي قوة “على الانتظار”، تنتظر ان تشغل موقع أحد القوى العالمية، وذلك واضح، فالصين اقتصادياً كانت في المرتبة الثالثة عالمياً، واليوم أصبحت في المركز الثاني، وتحتل المركز الأول عالمياً في مجال التجارة الدولية”.
وبالإضافة إلى ذلك التحالف الثنائي بين العملاقين الصيني – الروسي، توجد كوريا الشمالية – قوة نووية كبيرة، تشارك كلاً من البلدين نظرتهما للنظام العالمي الحالي، وإيران التي تسعى وراء امتلاكها السلاح النووي وتربطها علاقات استراتيجية مع موسكو وبكين، ورغم ان الهند لديها علاقات ومصالح استراتيجية مشتركة مع روسيا، ولكن في نفس الوقت لديها مشاكل وازمات كبيرة مع الصين.
عصر التحولات الدولية: ملامح تشكل نظام عالمي جديد
يقول محلل الشؤون الاستراتيجية في مجلة جي فوكس الدولية: ” ان هناك عدة مؤشرات على ان إعادة تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب لم يعد مجرد رأي أو تحليل، انما أصبح مسألة وقت على ما يبدوا. فالمؤشر الأول هو تراجع قدرة المؤسسات العالمية على التأثير في الأزمات والصراعات الدولية من جهة، وانحيازها إلى طرف دون آخر في بعض القضايا من جهة أخرى، وهنا أقصد الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرها من الهياكل الدولية، ولا شك بإن وجود صراع دون قدرة تلك المؤسسات على حله يعني وجود طرف اخر متورط فيه بعيداً عن المضلة الدولية، كأن تكون دولة أو مجموعة دول يمارسون دوراً ما بهدف تحقيق مصالح معينة خاصة بهم. والأخطر من ذلك، ان طبيعة إدارتهم للأمر قد تكون بحد ذاتها تهديداً للأمن العالمي، دعونا نسوق اليكم بعض الأمثلة، عندما ذهبت الولايات المتحدة وبعض من حلفائها لقرار غزو واحتلال العراق عام 2003، لم يكن قراراً مسنوداً على أساس أو قرار دولي واضح بهذا الشأن من مجلس الأمن الدولي، وذلك دلالة على تجاوز واشنطن وحلفائها لمجلس الامن الدولي، الجهة المعنية بالحفاظ على الامن والسلم الدوليين، بل والأصعب من ذلك، ان الحرب على العراق والاطاحة بنظام صدام حسين، دون تقديم بديل قادر على الحفاظ على الدولة العراقية والامن الإقليمي، ساهم في انتشار الإرهاب والجماعات المسلحة التي جاءت من أفغانستان وباكستان وايران و سوريا وغيرها من دول العالم للقتال على ارض العراق ضد القوات الامريكية والتحالف الدولي، ولم تقف النار على حدود العراق، حيث ضربت العمليات الإرهابية مختلف عواصم العالم.
أما الاتحاد الروسي وفي عام 2014 ضم جزيرة القرم الأوكرانية له بالقوة، وفي عام 2022 قامت روسيا بغزو أوكرانيا عسكرياً، وتلك دلالة أخرى على تجاوز الأطر المؤسساتية الدولية، وجدير بالقول ان ما سيترتب على هذه الحرب لا يقل خطورة عن نتائج غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 على المستوى العالمي. وبالتالي فإن أي تحرك عسكري في المستقبل بين دول كبرى ونووية، على سبيل المثال، اندلاع حرب بين الهند والصين، أو الهند وباكستان، أو اجتياح الصين لتايوان، أو حرب بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، او حرب صواريخ بين إسرائيل وايران، كلها احتمالات باتت واردة في ظل الأجواء الدولية المشحونة والملتهبة، وبالتالي فإن أي عمل عسكري قادم سيكون تجاوزاً جديداً على المؤسسات والهياكل الدولية التي أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا ننسى ان في كل ازمة وصراع جديد فإن تأثير ودور تلك المؤسسات يكون أقل بكثير من السابق، وهكذا إلى أن يصل النظام الى حالة انهيار كامل، من خلال ظهور كتل وهياكل جديدة تقوم على مبدأ الاستقطاب والاحلاف الدولية تعمل على تأسيس نظام عالمي جديد بمهام وأدوار مختلفة يحل محل النظام العالمي الحالي.
Comments 1