يعتبر”السلوك العنيف” من الظواهر التي رافقت الانسان منذ وجوده على سطح الأرض، وتحديداً منذ تشكيل النواة الأولى للمجتمع البشري، فكانت هذه الظاهرة عبارة عن تحدي دائم لوجود الانسان، فمنذ ان قتل قابيل أخاه هابيل أبناء سيدنا ادم عليه السلام، رسمت أول صورة من صور العنف على وجه الأرض، فأمسى العدوان بذلك سمة من السمات التي تميز الانسان، وأصبح قتل أخ لأخيه اول جريمة في تأريخ البشرية.
يُعرف العنف على أنه مجموعة من السلوكيات تهدف إلى الحاق الأذى بالنفس أو بالأخر، ويأتي بشكلين إما بدني مثل: الضرب، التشاجر، أو التدمير او إتلاف الأشياء، والعنف اللفظي مثل: التهديد، الفتنة، الغمز، النكتة اللاذعة، وهو في الأخير يؤدي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى الحاق الأذى. وقد أرتبط مفهوم العنف بكثير من المفاهيم الأخرى مثل: الايذاء، الإساءة، الإهمال، الاعتداء، التنمر، السلوك الانحرافي، الجريمة والعدائية.
دور وسائل الاعلام في التأثير على سلوكيات الطفل:

تعد وسائل الاعلام وسيلة لنقل الأفكار والمعتقدات من جيل لاخر، والتأثير بسلوك الانسان ووعيه في جميع مراحل حياته، سواء كان طفلاً أم بالغاً أم كبيراً في السن. ولا شك في ان وسائل الاعلام تلعب دوراً كبيراً في عملية التنشئة للطفل، ابتداءً من بناء المُخيلة والعقلية وانتهاءً بسلوكياته وقراراته فيما بعد، بما تتضمن من معلومات مقروءة ومرئية ومسموعة.
لا يختلف أحد على ان تلك الوسائل تمارس دوراً تربويا في تنشئة الطفل، سواء بشكل سلبي أو إيجابي، ومن الصحيح الإشارة إلى الإيجابيات والسلبيات المتبعة من قبل بعض وسائل الاعلام وصُناع المحتوى، مثل: (شركات صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية وأفلام الرسوم المتحركة والألعاب الالكترونية. ألخ.) حيث تنقسم تأثيراتها إلى قسمين رئيسيين وهما:
تأثيرات إيجابية على الطفل
يذكر العلماء والتربويون الحاجات الأساسية للطفل على الشكل التالي: (الحاجة إلى الغذاء، الحاجة إلى الامن، الحاجة إلى المغامرة والخيال، الحاجة إلى الجمال، والحاجة إلى المعرفة) وبطبيعة الحال فإن وسائل الاعلام وصناعة المحتوى تلبي الاحتياجات الثلاثة الأخيرة، فـ ” صُناع الإعلام والمحتوى” مثل البرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال، أفلام الرسوم المتحركة، أفلام الأطفال والمراهقين، وغيرها. كلها تساهم في إمكانية توفير الحاجات الأساسية المذكورة، فهي قادرة على تنمية الحس الجمالي لدى الطفل، والمعرفة وغرس القيم التربوية، وحث الطفل على التعاون مع الاخرين، ومد يد المساعدة واحترام الناس وخاصة للأبوين، وغيرها من الأمور والقيم، فوسائل الاعلام أداة قوية التأثير في تنشئة الطفل والمراهق.
نموذج عن المحتوى الجيد للاطفال، فيلم رسوم متحركة تعليمي للأاطفال عن علوم الارض والفضاء..
تأثيرات سلبية على الطفل
في المقابل، بعض وسائل الإعلام وصُناع المحتوى، يلعبون دوراً خطيراً للغاية وعكسياً في غرس أفكار وسلوكيات منحرفة كـ”العنف”، والذي ليس بالضرورة ان يكون الحث عليه بشكل مباشر، رغم ان بعض الاعمال الموجهة للأطفال والمراهقين تحمل الكثير من الإشارات المباشرة للعنف، ولكن في جانب كبير منها تكون غير مباشرة أيضا، ولذلك أهتمت العديد من الدراسات النفسية في تحليل المحتوى الموجهة لهذه الشريحة الناشئة، حيث خلصت الى وجود إشارات وإيحاءات خطيرة للغاية تؤثر في التكوين النفسي والسلوكي للطفل في حثه على العنف اللفظي والجسدي، وكذلك زرع أفكار سلبية مخالفة للقيم الحميدة، التي تنعكس نتائجها على نفسية الطفل ثم سلوكياته فيما بعد.
وتبدأ السلبيات من نقل وسائل الاعلام وصناعة المحتوى أخلاق وقيم غريبة أو مخالفة لمجتمع الطفل، تؤدي لخلخلة نسق القيم في عقول الأطفال والمراهقين، فعلى سبيل المثال، مشاهدة العنف في أفلام الأطفال والمراهقين تؤدي إلى إثارة العنف في سلوكياتهم، وتكرار تلك المشاهد تؤدي إلى تبلد الإحساس بالخطر وإلى قبول العنف كوسيلة استجابة تلقائية لمواجهة بعض المواقف، وممارسة السلوك العنيف. وبالنتيجة يؤدي ذلك إلى اكتساب الأطفال سلوكيات عدوانية مخيفة، إذ ان تكرار أعمال العنف الجسمانية والأدوار التي تتصل بالجريمة، والافعال ضد القانون يؤدي إلى انحراف الأطفال والمراهقين.
في دراسة بحثية استمرت لمدة شهر واحد استهدفت بعض الاعمال الموجهة للأطفال والمراهقين ( أفلام رسوم متحركة، أفلام للمراهقين، الألعاب الكترونية) لغاية سن 14 عاماً، وجدت ان ( 193) برنامجاً تلفزيونياً، تضمنت ( 934 ) مشهد عنف موجهاً للشريحة العمرية المستهدفة.
مقاطع تتضمن مشاهد أفلام كارتون، أفلام للمراهقين، العاب الكترونية، تضمنت مشاهد واشارت عنف وعدوانية أجريت عليها الدراسة
ألعاب الكترونية قاتلة!
ليست الأفلام والبرامج التلفزيونية فحسب، إنما شكلت بعض الالعاب الالكترونية المُنتشرة على الانترنيت والهواتف الذكية وسيلة أخرى لا تقل أهمية عما تحدثنا عنه قبل قليل في تأثيرها على سلوكيات الأطفال والمراهقين، بل زادت عنها في بعض الأحيان، خاصة وان بعض من تلك الألعاب المُنتشرة مجاناً على الانترنيت قد كانت سبباً في حدوث حالات انتحار لعدد كبير من المراهقين في مختلف دول العالم، فعلى سبيل المثال، لعبة الحوت الأزرق، المثيرة للجدل، تسببت في انتحار أكثر من 100 شخص حول العالم معظمهم من الأطفال، ومنذ ظهورها في عام 2015 لاقت رواجا كبيراً في وقتها بين شريحة المراهقين، وهي عبارة عن مجموعة من التعليمات التي تطلبها من اللاعبين للقيام بها عبر 50 مرحلة شديدة الخطورة، كاستخدام الآلات حادة ومشاهدة أفلام رعب معينة في وقت الليل والمشي ليلاً على الأسوار وغيرها .
ومن الألعاب الالكترونية المرعبة أيضاً، والتي انتشرت خاصة في دول الخليج العربي، ” لعبة مريم” وتتمثل اللعبة في وجود طفلة صغيرة تدعى “مريم” تاهت عن منزلها، والمشترك يساعدها للعودة إليه، وأثناء ذلك تطرح ” اللعبة” المجهولة على اللاعب، مجموعة أسئلة شخصية عن حياته وأخرى سياسية، وفي إحدى المراحل تطلب مريم التي تشبه الشبح، الدخول للغرفة لمقابلة والدها، وفي النهاية تحرضه على الانتحار وإذا لم يتم الاستجابة لها تهدده بإيذاء أهله.
أما لعبة البوكيمون غو، التي ظهرت في عام 2016، تسببت في العديد من الحوادث القاتلة بسبب انشغال اللاعبين بمطاردة والتقاط شخصيات البوكيمون المختلفة خلال سيرهم في الشوارع. وكذلك الحال مع لعبة ” جنية النار” التي تشجع الأطفال على اللعب بالنار، حيث توهمهم بتحولهم إلى مخلوقات نارية باستخدام غاز مواقد الطبخ وتدعوهم إلى التواجد منفردين في الغرفة حتى لا يزول مفعول كلمات سحرية يرددونها، ومن ثم حرق أنفسهم بالغاز، ليتحولوا إلى “جنية نار”، وقد تسببّت في موت العديد من الأطفال حرقا، أو اختناقا بالغاز.
مراهق يتحدث عن تجربته مع لعبة الحوت الأزرق المميتة
العنف “غير الواقعي” أقوى على سلوك الاطفال
أشار سكيب داين يونج، في كتابه: (السينما وعلم النفس.. علاقة لا تنتهي)، إلى دراسة سابقة قد أجريت في الولايات المتحدة عن العلاقة بين العنف والبرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال، حيث توصلت الدراسة إلى أن برامج الأطفال كانت أكثر عنفًا بكثير من برامج الكبار، بمعدل بلغ ثلاثين فعلًا عنيفًا في الساعة الواحدة. غير أن العديد من تلك الوقائع كان أقلَّ شبهًا بالواقع وأكثر هزليَّةً من عنف الكبار، وفي حين يعتقد البعض أن العنف غير الواقعي أقلُّ إزعاجًا للأطفال، يشير المتخصصون إلى أن مثل تلك الايحاءات والاشارات يمكن أن يكون لها تأثير أقوى نسبيٍّا على سلوك الأطفال، ذلك لأن العواقب السلبية للعنف يتم التقليل من شأنها.
كما ركَّز الباحثون أيضًا على العنف العلائقي الذي يمثِّل أفعالًا غيرَ مباشرة، لكنها مؤذِية؛ من قَبِيل ترويج الشائعات، والإقصاء، والمعاملة الصامتة التي تمَّ تصويرُها في فيلم «فتيات لئيمات» على سبيل المثال. وقد وُجِد أن أفلام الرسوم المتحركة من إنتاج ديزني تتضمَّن مشاهد عنف غير مباشر بمعدل تسع مرات في الساعة. ومن اللافت أيضًا أن شخصيات ديزني«الشريرة » و « الطيِّبة » على حدٍّ سواء تتورَّط في ممارسة العنف العلائقي. بَيْدَ أن أفعال الشخصيات الطيِّبة تجنح إلى العنف بدرجة قليلة (إيماءة تحدٍّ أو عُبُوس، على سبيل المثال)، بينما تكون أفعال الشخصيات الشريرة أكثر إيذاءً للآخرين (ممارسة ضغوط، أو إنزال لعنات، أو تآمُر، مثل تلك المؤامرة التي دبَّرها جاستون ضد الوحش في فيلم الجميلة والوحش).
العنف عبر وسائل الاعلام والالعاب الالكترونية
تشير إحدى الدراسات التي تناولت موضوع تأثير مشاهد العنف في التلفزيون على السلوك العدواني للطفل، إلى ان الأطفال يميلون الى تصديق ما يشاهدونه على الشاشة دون تفرقة بين الحقيقة والخيال والتمثيل، حيث إنه يتم اظهار الشخص المعتدي إنسان ناجح وقوي، وفي النادر ما ينال عقاب على أعمال فيها عنف، فغياب اثر العقاب على السلوك العدواني المعروض على شاشة التلفزيون بما في ذلك برامج الرسوم المتحركة يجعل الطفل يتوقع أنه سينال مكافأة على سلوكه العنيف مثله مثل النموذج الذي شاهده. ويعتقد أن العنف هو الأسلوب الأمثل لحل المشكلات وخصوصا أن من يرتكب هذا العنف هو البطل أو الرجل الصالح، وذلك يتم تشجيع سلوك العنف أو تعزيزه فيميل المشاهد الصغير لتقليده بعد المشاهدة.
وكذلك الحال بالنسبة للألعاب الالكترونية، التي تجعل من المُشترك، اللاعب الرئيسي، “قاتلاً افتراضيا” يستخدم مجموعة أسلحة لغرض القتل واستباحه المنازل والأماكن العامة في عالم افتراضي، تكون مطابقه أو مشابه لتلك التي نعرفها في حياتنا العادية، وتتيح معظم الألعاب مختلف أنواع الأسلحة والأدوات الحادة تحت تصرف (اللاعب أو القاتل الافتراضي) لاستخدامها في قتل الأعداء والمدنيين والشخصيات الموجودة في عالم اللعبة الافتراضي!
وحسب نموذج تعلم المعتقدات والمواقف، يؤدي العنف المُستخدم كمادة ومحتوى إلى تغيير المواقف والآراء والمعتقدات تجاه فكرة العنف في حد ذاتها عند المُتلقي، حيث تؤدي هذه العملية النفسية إلى تدعيم قابلية السلوك العدواني وتحجر عاطفة المُتلقي وتضعف حساسيته إزاء ظاهرة العنف.
وبحسب نسبة كبيرة من الدراسات أشارت إلى ان الأطفال العدوانيين لا يعتقدون أن التصرف العدواني والعنف تصرفات خاطئة وغير مقبولة من قبل المجتمع، فإذا أقتنع الأطفال أن السلوك العدواني هو سلوك مُبرر فإنهم يتصرفون بطريقة عدوانية، وبطريقة أو بأخرى فالعنف المُستخدم في المحتوى المعروض يؤدي إلى تقبل السلوك العدواني والعنف، فكلما شاهدنا العنف تعودنا عليه، وكلما تكررت صورة في ذهننا من خلال التلفزيون والألعاب الالكترونية وغيرها من الوسائل، أصبح العنف جزءا منا ومن حياتنا، فكلما تعودوا الأطفال على العنف كلما أصبحت الأمور سهلة بالنسبة لهم لارتكاب أعمال العنف. وكذلك فإن تقليد السلوك العدواني المعروض يؤدي الى زيادة في مختلف صور العدوان البدني واللفظي بين الأطفال والمراهقين الذين يستهلكون هذا النوع من الاعمال سواء من خلال مشاهدتهم للتلفزيون أو اللعب عبر أجهزة الكومبيوتر والهواتف الذكية. حيث لوحظ أن المراهقين الذين عرضت عليهم مشاهد عنف كانوا أشد عدوانية ممن شاهدوا أفلاما لا تتضمن عنف.
كما كشفت بعض الدراسات ان الأطفال يميلون إلى تقليد (الغير) وتصديق جميع المشاهد المعروضة إذا كانت الشخصيات ذات نفوذ وسلطة قوية، فعلى سبيل المثال، شخصيات (سوبرمان، طرزان، سبايدر مان، باتمان) وغيرها، لاقت رواجا كبيراً بين أوساط الأطفال والمراهقين على مدى عقود طويلة ولا تزال، ويميل الطفل إلى القول: أنا سوبرمان، أنا كونان…ألخ، ويردد عبارات يسمعها عن طريق مشاهدته لتلك الأفلام، كما أن تعامله مع الغير يصبح عنيفا، ويظهر ذلك من خلال ألعابه ومشاجراته وحتى الألبسة وغيرها من التصرفات. ومن الأمور الخطيرة ان مشاهدة العنف وتكراره يسمح للمتلقي بتبرير سلوكياته العدوانية واعتبارها تصرفات طبيعية، والطفل الذي يقوم بعمل عدواني من المفروض ان يؤنبه ضميره، لكن هذا التأنيب يزول بمجرد مشاهدة العنف وتكراره عليه حتى يصبح أمر طبيعي بالنسبة له.
يقول المتخصصين في علم النفس والباحثين في تأثيرات المحتوى على سلوك الأطفال والمراهقين، بالإمكان الحد من العنف المٌستخدم في الاعمال الموجهة لهذه الشريحة من المجتمع، من خلال انخراط أكبر للقوانين وتنظيمها للمحتوى المعروض وكذلك الاخذ بآراء المتخصصين المعنيين بالطب النفسي والسلوكيات النفسية للأطفال والمراهقين لغرض وضع قواعد وطرق لتحديد ماهو مقبول في المواد المستخدمة لبناء شخصية الطفل وتطوير سلوكياته بشكل صحيح، وكذلك لتجنب المواد والايحاءات والاشارات المؤدية لبناء شخصية مضطربة مائلة للعنف والعدوانية.