لطالما لازمت الموسيقى الإنسان على مر التأريخ، في حزنه وفرحه، في السلم والحرب، لبث السعادة والمتعة والحماس أو حتى لبث الخوف والرعب في نفوس الناس فالموسيقى لغة تفهمها كل الألسن وهي من أقوى أشكال الفن تأثيراً في نفوس الناس، ولها دور بارز بحركة المجتمع وتوجيه الذوق العام. في حوارنا الصحفي هذا صاحبة الامتياز هي أستاذة الموسيقى وعازفة البيانو العراقية رنا جاسم..
جي فوكس الدولية: حدثينا عن بداياتك الفنية وسبب اختيارك للعزف على البيانو؟
العازفة رنا جاسم: منذ طفولتي بعمر 6 سنوات معظم ألعابي كانت عبارة عن الآلات موسيقية كالبوق والناي والبيانو، ولكن كنت اشعر بانسجام خاص مع البيانو وبدأت اللعب على مفاتيحه كطفلة لم أكن أعرف شيء عن الموسيقى، ففي ذلك الوقت لم تكن التكنلوجيا متطورة كما هي الآن حيث يمكنك الوصول لأي معلومة عبر الانترنيت.
جي فوكس الدولية: هل الجمهور العراقي متذوق للموسيقى؟
العازفة رنا جاسم: في بدايات عملي بالمجال الفني لم يكن المجتمع متذوقاً للموسيقى كما هو الان، ولم يكن متقبلاً لفكرة عمل المرأة بالفن والموسيقى، وكغيري من النساء اللواتي عملن بالفن فقد كنت أواجه صعوبات كبيرة بسبب عادات وتقاليد اجتماعية رافضة لدخول المرأة هذا المجال. ولكن نظرة المجتمع إلينا تغيرت وتذوق الناس للموسيقى أصبح أكبر من السابق وصارت العائلات العراقية أكثر اهتماماً بتعليم ابناءهم من كلا الجنسين للموسيقى.
جي فوكس: لكِ أنشطة فنية واجتماعية عديدة، ماهي رسالتك الفنية؟
العازفة رنا: في بداياتي الفنية لم يكن لدي هدف أو رسالة، شغفي الوحيد كان آلة البيانو، ولكن خلال رحلتي الفنية وتطوير امكانياتي كعازفة، واجهت ظروف صعبة وتحديات مجتمعية عمقت في داخلي مشاعر قادتني الى أن أصنع لنفسي هدفاً ورسالة اوصلها للمجتمع فحاولت أن اصحح معتقدات خاطئة وموروثات دخيله على المجتمع العراقي وليست جزءاً منه. وأسعى ان يكون للمرأة العراقية دورا في مجال الموسيقي، فالمرأة السومرية هي أول من عزف على آلة القيثارة الشهيرة، وهي آلة موسيقية سومرية. هذا الأمر زادني إصرار على السعي لإيصال هذه الرسالة للمجتمع، فالموسيقى هي حياة.. والحياة موسيقى بكل تفاصيلها، زقزقة العصافير وأمواج البحر وحتى صرير إغلاق الباب كلها شكل من أشكال الموسيقى.
جي فوكس: مر العراق بظروف شديدة الصعوبة منذ عام 2003، غيبت فيها العمليات العسكرية والتفجيرات ملامح بغداد الجميلة والتي عُرفت تاريخيا بدار السلام ومدينة الالف ليلة وليلة، وبعدما كانت عاصمة الرشيد لا تنام ساهرة راقدة على دجلة العظيم فأصبحت مدينة متشحة بالأحزان والفوضى. كيف تأثرت الموسيقى بأجواء الحرب والظروف المصاحبة لها؟
العازفة رنا : كانت للحرب تداعيات مروعة على المجتمع العراقي، وافرزت ظواهر اجتماعية غريبة لم نكن نعرفها سابقاً، لا تمت بصلة لثقافة وحضارة العراق. كانت معاناتي كامرأة موسيقية عراقية مضاعفه، ولكن على الرغم من كل الظروف الصعبة والمعاناة التي عشناها فنحن شعب يحب الحياة ونتذوق الموسيقى والفنون بشغف كبير، بل ونواجه أزماتنا بالموسيقى ايضاً، فهي سلاح نكافح به مظاهر الجهل والتخلف، فالعراقيون من الشعوب التي لا تعرف اليأس والاستسلام للظروف القاهرة التي صنعتها الحروب والسياسة.
جي فوكس: يُقال ان لكل فنان مصدر الهام لأعماله الفنية، فما هو مصدر الهامك لتأليف مقطوعاتك الموسيقية؟
العازفة رنا : أستطيع القول ان مصدر الالهام عندي هي نفسها الظروف الصعبة التي عشتها واحاطت بي، ساعدتني ان اصنع من ظروفي القاسية وقوداً لنور العلم الموسيقي، وجدت في تلك الظروف أسباباً للسعي أكثر لأثبات نفسي كعازفة بيانو، ويعود الفضل في ذلك بالمقام الأول لأستاذي الذي حرص على تدريسي العلوم الموسيقية والبيانو، ورغم أنني كنت أعرف العزف على البيانو قليلاً، ولكنه ساعدني بالحصول على العلمية الموسيقية كنظريات واساسيات الآلات الموسيقية.
جي فوكس: يمكن القول أن الموسيقى سلاحٌ غير قاتل ذو حدين، تُستخدم ايضاً لشحذ الهمم وبث الحماس في نفوس المقاتلين على جبهات القتال لرفع الروح المعنوية والقتالية لديهم مثلما ازدهرت الاغنية الوطنية على فترات مختلفة خلال الحرب العراقية الإيرانية، والحرب على الإرهاب وداعش، وكذلك بالتظاهرات السلمية كما حدث في ثورة تشرين عام 2019. كيف تنظرين لدور وتأثير الموسيقى بالمجتمع العراقي؟
العازفة رنا : الموسيقى لها دور جدا كبير داخل المجتمع والاغنية ايضاً، لأنها مكونة من مادة موسيقية وكان لها دور حماسي كبير خلال ثورة تشرين عام 2019 فاشعلت الحماس في قلوب الثوار الشباب وكان لها دور بارز في تلك الاحداث. وكذلك فإن للموسيقى والاغنية العراقية دور كبير وقدرة عالية على تغيير القرارات والتوجهات وعدة أمور يرتكز عليها المجتمع المحلي.
جي فوكس : يتردد باستمرار القول بانخفاض جودة الاعمال الموسيقية وتردي الاغنية العربية والعراقية. ما تعليقك على ذلك؟ وبرأيك من له الحق في تحديد مستوى جودة الاعمال الفنية هل هو الجمهور أم الاعمال الفنية هي من تحدد اتجاه الذوق العام؟
العازفة رنا : لا نستطيع الحكم على جميع الاعمال الموسيقية بانها متردية، يمكننا وصف بعضها بذلك، بالاعتماد على أمرين. الأول هو ذوق الجمهور، واستشهد في ذلك بمقولة: إذا أردت أن تعرف ثقافة شعبا استمع إلى موسيقاه، ونحن كعراقيين هويتنا أصيلة، فالأغاني والمقامات العراقية الاصيلة تشكل جزءاً من ثقافتنا وتراثنا، ونرى تأثيرها على المجتمع الخليجي، فعدد كبير من المطربين والملحنين الخليجيين يعتمدون بأعمالهم الفنية على ايقاعات والحان عراقية، وهذا دليل ان الاعمال العراقية بدأت تأخذ مكانة مميزة داخل المجتمع العربي والخليجي.
الامر الثاني، هم صُناع الاغنية، ومنهم المُلحنين ايضاً، لهم دور مهم في تقديم أعمال ذو جودة عالية أو منخفضة، لذلك أقول باستمرار يجب ان يكون للعاملين في هذا المجال خلفية موسيقية تؤهلهم لصناعة الالحان والاغاني، لا يكفي الاعتماد في ذلك على الفطرة فحسب، ويجب ان تكون لديهم اساسيات علمية موسيقية لتقديم أعمال فنية ذو جودة عالية.
جي فوكس : هل تعتقدين ان للفنون قدرة على تغيير ظواهر اجتماعية غير مرغوب بها؟
العازفة رنا : نعم، للموسيقى دور في تغيير ظواهر اجتماعية أو صناعة ظواهر جديدة داخل المجتمع. نحن نعيش في عصر يتميز بالسرعة والتكنلوجيا، ولذلك صرنا نعتمد بشكل أكبر على الأجهزة الالكترونية ونفتقد للحياة الاجتماعية العادية التي عشناها حتى أواخر القرن الماضي.
ويمكن للموسيقى تصحيح هذا الواقع الاجتماعي، ولكن يعتمد على الموسيقيين أنفسهم، لأن هم الذين يترجمون أفكارهم ومخيلاتهم إلى أعمال فنية وأنشطة اجتماعية مثل الحفلات والمناسبات وغيرها، من شأنها ان تفصلنا عن حالة الانغماس بالتكنلوجيا للعودة إلى فطرتنا الاجتماعية بالتواصل فيما بيننا عبر تلك الأنشطة والفعاليات. فالهواتف الذكية، على سبيل المثال، أصبحت من الأشياء التي نحملها باستمرار في كل مكان ونبقى متصلين ذهنيا وشعوريا بها بدلاً عن الاتصال بتفاصيل الحياة العادية البسيطة، وبالتالي فإن هكذا أنشطة وفعاليات ستكون مفيدة للناس فهم بحاجة لمحتوى يتفاعلون معه عوضاً عن الانغلاق داخل حياة افتراضية تفصلهم عن الواقع الحقيقي، وكذلك يمكن لتعلم الفنون كالرسم والنحت والمسرح والسينما والتصوير والموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية ان تساعدنا على ان لا نستهلك انفسنا اكثر بالتكنلوجيا طوال الوقت.
جي فوكس: هل تتمتع المرأة اليوم بحقوقها وتمارس دورها بشكل كامل بالمجتمع؟ وماهي الصورة التي تتمنين ان يصير عليها المجتمع العراقي؟
العازفة رنا : نستطيع القول ان للمرأة دور حاليا تمتع به بالمجتمع ، ولكن أتمنى ان يكون لها دور أساسي وليس ثانوي، ففي المجال الفني مثلا، أتمنى رؤية المرأة وهي تقود أوركسترا في العراق، وهذا الامر لم نشاهده حتى الان، وكذلك للفرق الموسيقية، رغم وجود فرقة واحدة حالياً (سومريات) تتألف من سيدات موسيقيات عراقيات ويقودها رجل، وكما ذكرت أتمنى ان يكون للمرأة دور قيادي اكبر.