دراسات مترجمة وحصرية النشر باللغة العربية على جي فوكس الدولية
السمة الرئيسية للعالم المعاصر هي الترابط بين المجتمعات والأشخاص عبر الحدود الوطنية للدول القومية. هذه العملية المعقدة تسمى العولمة ومن الواضح أنها ظاهرة ذات تأثيرات متعددة المستويات.

تغطي المحيطات المائية ما يقرب من ثلاثة أرباع سطح الأرض ويمر عن طريق البحر أكثر من 80٪ من حجم اجمالي التجارة الدولية، استناداً لمؤتمر الأمم المتحدة والتنمية 2016، ونظراً لتلك الأهمية التي تمثلها المحيطات للجميع، فلا بد اذن اعتبار النقل البحري العمود الفقري للعولمة. خاصة لتغطية احتياجات “اقتصاديات الوقت “، مثل اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة. حيث يعتبر الشحن، في وقتنا الحاضر، من الصناعات العالمية شديدة الأهمية لأنه يخدم أحجام هائلة من التجارة العالمية بشكل يومي بواسطة سفن الشحن ذات الاحجام والقدرات المختلفة، وبتكاليف فعالة وشكل آمن.
إنها حقيقة لا تحتاج إلى تفسير عميق، أن تكوين الأرض يسهل مساعي النقل البحري، ثلاثة أرباع سطح الكوكب مغطى بالبحر أو البحيرات، وباستثناء القطبين الشمالي والجنوبي حالياً، فإن نقل الركاب والبضائع عن طريق السفن البحرية أمر ممكن من وإلى أي جزء من العالم، وهذه الحقيقة بحد ذاتها تشكل ميزة نسبية للنقل البحري على النقل الجوي أو البري. على أي حال، نظرًا للتوافر الهائل للسفن التجارية، فإن احتياجات النقل للمجتمع الذي يخضع لمستويات متزايدة من الاستهلاك في السلع والمواد الخام أصبحت ممكنة تقنيًا وماليًا.
من ناحية أخرى، يمكن أن تكون قضايا ترسيم الحدود البحرية المعلقة لفترات طويلة جدًا بين الدول المتجاورة مصدرًا للتوترات المستمرة، وفي نفس الوقت تشكل مشاكل خطيرة لحركة الملاحة، وتعوق النقل البحري وطرق إمداد الطاقة ذات الصلة.
يعد النقل البحري قطاعًا مهمًا للغاية في اقتصاد الاتحاد الأوروبي. فالخط الساحلي البالغ طوله 70 ألف كيلومتر والعدد الكبير من الدول البحرية الأوروبية، وضع مسألة الوصول الآمن للممرات المائية، من الأمور بالغة الأهمية لمستقبل أوروبا. تلك الأهمية المتزايدة للممرات البحرية، دفعت بالدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى الاتفاق على التعاون الأوثق فيما بينها في المجال البحري وتحديد إستراتيجية بحرية موحدة، رغم ان المصالح قد تتفاوت مع الأداء في القطاع المالي. وبالتالي، في يونيو 2014، تبنى المجلس الأوروبي استراتيجية الأمن البحري (EMSS) التي تهدف إلى توفير إطار عمل مشترك لسياسات وطنية متماسكة. مع الأخذ في الاعتبار كل ما سبق ذكره، من الواضح أن استراتيجية الأمن البحري للاتحاد الأوروبي مرتبطة بحرية الملاحة والنقل البحري “الموجه”؛ تهتم هذه الوثيقة رفيعة المستوى بشكل خاص بطرق إمداد الطاقة البحرية غير المنقطعة/ الحرة، حيث تتعرض الأخيرة للتهديد من قبل قضايا ترسيم الحدود البحرية بين الدول المجاورة. إن الوضع النموذجي لمثل هذا النوع من التهديدات، إلى جانب التحديات والفرص ذات الصلة فيما يتعلق بكل من الأمن البحري والتجارة الدولية هو حالة شرق البحر الأبيض المتوسط.
الأهمية الجيوسياسية والجيو-اقتصادية لبحر شرق المتوسط فيما يتعلق بالنقل البحري:
يعد البحر الأبيض المتوسط من بين أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم. حيث لوحظ سنوياً خلال العقد الماضي، ان هناك ما مجموعه 15% من نشاط الشحن العالمي حسب عدد المكالمات، و10% من خلال الأطنان الساكنة للسفن (DWT). وفي نفس العقد، أجرت 13000 سفينة تجارية 252000 مكالمة في موانئ البحر الأبيض المتوسط، وإجمالي 3.8 مليار طن ساكن في المتوسط سنويًا. الحقيقة هي أن تلك الأرقام تزداد سنوياً، بغض النظر عن الركود الاقتصادي العالمي. فالإحصاءات، خلال تلك الفترة، أشارت بوضوح إلى عبور حوالي 10000 سفينة (سفن كبيرة) إلى الموانئ غير المتوسطية. كما وتزداد السفن التجارية العاملة داخل البحر الأبيض المتوسط التي تحمل السلع والبضائع التجارية الكبيرة، حيث بلغت سعة متوسط السفن التي تعبر البحر الأبيض المتوسط حوالي 50000 طن ساكن، وهي أكبر بثلاث مرات من تلك التي تعمل داخل البحر الأبيض المتوسط.
تتضح الأهمية الجيواقتصادية لمنطقة البحر المتوسط من خلال حقيقة أنها منطقة مشتركة لثلاث قارات مختلفة: أوروبا وآسيا وأفريقيا. علاوة على ذلك، من الضروري ملاحظة أن هناك مضيقين بحريين مهمين للغاية في حوضه الشرقي: الأول هو مضيق الدردنيل، الذي يتصل من خلاله البحر الأبيض المتوسط، وبحر إيجة، مع البحر الأسود ومختلف البلدان المطلة بسواحلها في المنطقة الأوسع للبحر الأسود، والذي بالطبع يشكل أهمية في تأمين الوصول إلى البحار المفتوحة الدافئة. أما البوابة الثانية هي قناة السويس. وبعد ذلك، يتشكل المحورين الأساسيين التاليين ذوي الأهمية الخاصة للنقل البحري، وهما: أولاً (المحيط الأطلسي – البحر الأبيض المتوسط – البحر الأحمر). ثانياً (البحر الأسود – بحر إيجة – البحر الأبيض المتوسط – المحيط الهندي). ونتيجة لذلك، غالبًا ما يتم وصف البحر الأبيض المتوسط كعنصر مهم للغاية في نظام النقل البحري المعاصر، وقبل كل شيء، باعتباره الرابط الأكثر أهمية في سلسلة النقل بين آسيا وأوروبا.
تشكل الكتلة الأرضية القارية لجنوب شرق أوروبا والمناطق البحرية المحيطة بها – ولا سيما المنطقة الأوسع من منطقة شرق المتوسط – مجموعة فرعية من أوراسيا ذات أهمية جيوسياسية كبيرة. كما تتعزز الأهمية الجيواقتصادية للبحر المتوسط ككل، من خلال حقيقة أن هذا هو المكان المشترك بين القارات الثلاث. وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي يقعان في موقع جيوسياسي ضمن نفس المحيط الأوسع، بينما يمكن معاملة تركيا ومصر (السويس) كجسور برية وبحرية في نفس الوقت بين أوروبا والشرق الأوسط / جنوب غرب آسيا.
الشكل (رقم 1) طرق النقل العالمية الرئيسية

تاريخياً، ان منطقة البحر الأبيض المتوسط منطقة تلاقت فيها الثقافات، بالإضافة إلى أنها منطقة مواجهة وصراع، ويرجع ذلك أساسًا إلى الموروثات التاريخية والثقافية لسكانها (أي أنها مجال تقاطع الثقافات المختلفة مثل الثقافات الأوروبية والاسلامية والعربية). وفي واقع الأمر، أن جزءًا من هذه التنوعات لا يزال يلتقي اليوم على الجانب الجنوبي من البحر المتوسط، وذلك يضع لنا تفسيراً آخر، لمدى أهمية تلك المنطقة من النواحي الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ولا سيما في الجزء الجنوبي الشرقي منها. وبالتالي، فمن الواضح أن دور المنطقة الأوسع لشرق البحر المتوسط له أهمية قصوى في تطور التاريخ.
وتجدر الإشارة إلى أن الكتلة الأرضية لشبه جزيرة البلقان ومختلف البلدان على طول الساحل المتوسط تشكل أهدافًا أساسية لأي محاولة تأتي من القوى القارية الكلاسيكية من أجل الوصول إلى البحار الدافئة. ومن الواضح أيضًا أنه مع انهيار الكتلة الاشتراكية وظهور العولمة، أصبح دور شرق المتوسط في السياسة الدولية متعدد الأبعاد. وهكذا، إلى جانب البعد الجيوستراتيجي للمنطقة، والذي يتجلى خلف الكواليس أو في أعقاب النزاعات الداخلية، سواء أثناء الإطاحة بالنظم الحاكمة مثلما حدث في ليبيا ومصر، أو في الحرب الأهلية كما في سوريا، بالإضافة إلى ذلك ، اكتسب شرق المتوسط دورًا مطورًا في مجال “الجغرافيا السياسية للطاقة”، وذلك بسبب المواجهة المستمرة بسبب خطوط الأنابيب، والتي ستكون في بؤرة سياسات جنوب شرق أوروبا للسنوات القادمة، لأنها تتيح العديد من التعقيدات الجيوسياسية ذات التأثير الواسع، ومن الاحداث المتصلة مثلا، اكتشاف رواسب من موارد الطاقة المتوفرة في قاع البحر.
النقل البحري في اليونان والرابط إلى إمدادات الطاقة في أوروبا:
يمكن القول أن اليونان دولة بحرية تقليدياً، منذ العصور القديمة، وذلك بحكم الجغرافية، وبالتالي فإن الشحن هو أقدم شكل من أشكال الاحتلال اليوناني وكان عنصرًا رئيسيًا في النشاط الاقتصادي للبلاد. وهناك تفسيرات مختلفة لهذه الظاهرة. من بينها ان الطبيعة الجبلية في البر الرئيسي والمساحة الزراعية المحدودة أجبرت الكثير من الناس على التطلع نحو اتجاه مختلف لتغطية احتياجاتهم من العمل / المهنة. علاوة على ذلك، توفر جزر اليونان العديدة والساحل الممتد حافزًا آخر للناس للتعامل مع البحر، الشحن والتجارة.
حيث تتمتع الجمهورية اليونانية بموقع جغرافي متميز للغاية، حيث تقع على مفترق طرق للعديد من الممرات البحرية الرئيسية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وعلى مقربة شديدة من قارتين أخريين مكتظتين بالسكان: آسيا وأفريقيا. كما ان قناة السويس ومضيق الدردنيل هما نقطتان خانقتان في غاية الأهمية لحركة الملاحة البحرية، كلاهما يجمع عددًا كبيرًا من السفن، حيث يتجاوز البناء الفني بين السويس وبورسعيد بشكل مطرد عدد 20000 عبور سنويًا. فعلى سبيل المثال، في عام 2016، مر ما مجموعه 34000 سفينة تقريبًا عبر القناة بينما تجاوز صافي طن ما يعادل 1900000 طن، وفقاً لإحصاءات حركة قناة السويس. وذلك على الرغم من أن الأزمة المالية وأنشطة القرصنة في خليج عدن قد أثرت سلبًا على عدد معابر السويس، إلا أن الأرقام المرتبطة بها آخذة في الارتفاع منذ الربع الثاني من عام 2013، حيث تمكنت العملية البحرية للاتحاد الأوروبي (ATALANTA ) من تقليص أنشطة القراصنة الصوماليين بشكل واضح.
على أي حال، فإن نسبة كبيرة من موارد الطاقة في العالم، بشكل أساسي، النفط والغاز الطبيعي، تمر عبر البحر الأبيض المتوسط وكذلك عبر بحر إيجة، ليس فقط تلك القادمة من الخليج العربي، إما عن طريق ناقلات النفط فقط أو من خلال مجموعة من خطوط الأنابيب والناقلات المتوسطة أو الكبيرة، ولكن يتم نقل التجارة الكاملة لموارد الطاقة القادمة من بحر قزوين وروسيا أيضاً.
بصرف النظر عن موقعها الجغرافي المهم للغاية، تمتلك اليونان أكبر أسطول تجاري في العالم، يُشكل أكثر من 16٪ من إجمالي الحمولة الساكنة في العالم، وفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية 2016، ويُشكل النقل البحري أكثر من 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي لليونان، ويعمل به جزء مهم من إجمالي القوى العاملة، بلغ ما يقرب من 290 ألف شخص. كما وبلغت أرباح الشحن 35.4 مليار يورو في عام 2014. وكذلك أظهر تقريراً صادر عن اتحاد مالكي السفن في الجماعة الأوروبية (ESCA) للسنوات 2012-2013 أن العلم اليوناني كان سادس أكثر علم استخدامًا في الشحن الدولي، بينما احتل المرتبة الثانية في الاتحاد الأوروبي. وأكد التقرير على أنه حتى خلال فترة الركود الاقتصادي الأسوأ في اليونان، عام 2012، والوضع الاقتصادي العالمي السيئ، فإن أرباح العملات الأجنبية من الشحن بلغت 6.86 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي اليوناني، وهذا هو سبب تبني كل حكومة يونانية منتخبة منذ ذلك الحين، رؤية إستراتيجية لتحويل البلاد إلى مركز رئيسي للتجارة في أوروبا.
الشكل (رقم 2) طرق النقل الرئيسية داخل البحر الأبيض المتوسط

تحتفظ اليونان بأحد الأماكن الرائدة في مجال الشحن الدولي. وكذلك فإن العلاقة بين أرباح الأنشطة التجارية البحرية والاقتصاد الوطني تشكل عامل مهم للغاية في تحقيق التنمية. من ناحية أخرى، هناك العديد من الخطوات المهمة لتحويل البلاد إلى مركز حيوي للتجارة الأوروبية، من خلال توسيع البنية التحتية في مختلف الموانئ. ولكن لسوء الحظ، فإن نقص التمويل هو العقبة الرئيسية أمام تحسين جودة الخدمات. ومع ذلك، فإن طموح اليونان أن تكون مركزًا تجاريًا أوروبيًا رئيسيًا، يتوافق تمامًا مع الاعتراف باليونان كمركز رئيسي للطاقة في أوروبا. ومن الأمثلة على ذلك، كما حدث في عام 2013، عندما قررت حكومة أذربيجان اختيار خط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي (TAP) باعتباره استمرارًا لخط أنابيب TANAP (خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول)، مع تشغيل الأخير عبر أراضي تركيا، وساد هذا المشروع على المشاريع المقترحة الأخرى، مثل خط الربط الكهربائي نابوكو وإيطاليا – تركيا – اليونان الذي كان له نفس الهدف ( نقل الغاز الطبيعي من حقل شاه دنيز الثاني في بحر قزوين ) (انظر الشكل 3).
يقدر تدفق الغاز بتوقعات متفائلة في 2017-2018، وهذا ثبت أن اختيار TAP مفيد لليونان، حالما يتم تخصيص الكميات الإضافية اللازمة من الغاز الطبيعي من أذربيجان وتركمانستان وشمال العراق إلى أوروبا من قبل شركة TAP وغيرها من المشاريع الإضافية، فمن المؤكد أنها ستكون قادرة على العمل بشكل متناسب مع إمدادات الطاقة في أوروبا. والنتيجة النهائية ستكون “ممر غاز جنوب أوروبا” بسعة متوسطة لا تقل عن 40 مليار متر مكعب، لذلك، فإن أثينا، التي شاركت أيضًا في مشروع خط الأنابيب الروسي “ساوث ستريم”، تهدف إلى رفع مستوى دورها في نقل الغاز إلى السوق الأوروبية، مما يجعلها والدولة المجاورة لتركيا نقاط عبور مستقبلية قوية (محاور). بالإضافة إلى ذلك، تم تصنيع قرابة 50 محطة لرسو السفن للغاز الطبيعي المسال (LNG)، بسعة إجمالية تبلغ 200 مليار قدم مكعب، تم تصنيعها في أوروبا خلال الأعوام السابقة؛ ويمكن لمالكي السفن اليونانيين أن يكونوا أبطال هذا العمل المربح الجديد.
الشكل (رقم3) خط أنابيب TANAP و TAP و Nabucco

ودائع الطاقة في الشرق المتوسط وأثرها على الأمن الدولي والأهمية الاستراتيجية لليونان:
وفقًا لبيانات دراسة الخدمة الجيولوجية الأمريكية (USGS)، يوجد في قاع حوض بلاد الشام (الذي تحيط به قبرص وإسرائيل وقطاع غزة ولبنان وسوريا) رواسب كبيرة من الغاز الطبيعي والنفط ( انظر الشكل 4). وكان قد تم بالفعل منح الشركات التي تخدم المصالح الأمريكية الإسرائيلية والنرويجية الإذن بالبحث في المنطقة البحرية بين قبرص وإسرائيل، وأعلنت عن اكتشافها مكامن كبيرة للغاز الطبيعي. وبلا شك ان الأحداث والقرارات السياسية في المنطقة تتأثر بشكل حاسم باكتشافات مصادر الطاقة الجديدة للكربوهيدرات في قاع البحر بين قبرص وإسرائيل، وكذلك في منطقة المثلث التي صاغتها جزر كريت (المأهولة بالسكان اليونانيين) – كاستيلوريزو – قبرص. وعلى ما يبدو أن أكبر رواسب الغاز الطبيعي موجودة في الحدود المشتركة للمناطق الاقتصادية الخالصة (EEZs) بين قبرص وإسرائيل، مما يعد بممر بديل وأكثر استقرارًا، لتزويد الاتحاد الأوروبي بالطاقة، وذلك في إطار جهود مضنية للغاية للتحرر من عقدة الحاجة للغاز الروسي. ومع ذلك، لم يتم تحديد جميع المناطق الاقتصادية الخالصة بين الدول المجاورة (باستثناء المناطق الواقعة بين قبرص وإسرائيل، وقبرص ومصر، وقبرص ولبنان)، على الرغم من بدء المشاورات المكثفة بين الأطراف المعنية لتحديد هذه المناطق.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك خلافات كبيرة فيما يتعلق بقضايا المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة (أي بين لبنان وإسرائيل، أو بين إسرائيل والفلسطينيين في غزة). بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود كمية كبيرة من رواسب الغاز الطبيعي ممكن ليس فقط في المناطق الواقعة بين قبرص وإسرائيل وبين قبرص ومصر، ولكن أيضًا في منطقة البحر غرب قبرص، التي تقع بين جزيرتي قبرص وكريت أيضًا. كما في البحر الأيوني وبحر كريت الجنوبي. ولذلك السبب فإن الحكومة اليونانية سعت لجولة ترخيص مع العديد من شركات الطاقة المهتمة.
الشكل (رقم 4) تقييم موارد النفط والغاز غير المكتشفة في جنوب شرق حوض البحر الأبيض المتوسط

ان رواسب النفط والغاز الطبيعي المكتشفة في شرق البحر المتوسط، والاعتقاد السائد بأن المنطقة المحيطة غنية جدًا بموارد الطاقة، تسببت منذ العام 2008 في حالة من التوتر وتضارب المصالح بين اللاعبين الرئيسيين، والتي تضافرت مع سلسلة من الانتفاضات ضد الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط. كما ان الحالة في شرق وشمال إفريقيا، أظهرت عن حالة تصادمية تزايدت مع مرور الوقت، وهكذا وضع يؤدي إلى تدهور الأمن الداخلي للبلدان المعنية، وظهور تهديدات ومخاطر جديدة للمنطقة المحددة ومحيطها، والتي يمكن الإشارة إليها على الشكل التالي:
-
أولاً: أنها تهدد استقرار العالم العربي ككل.
-
ثانيًا: يؤثر سلبًا على العلاقة التعاونية بين الدول المشاركة في الانتفاضات.
-
ثالثًا: تهيئ الظروف لتدفقات هائلة جديدة من المهاجرين واللاجئين إلى بلدان أوروبا.
-
رابعًا: يعرض أمن الطاقة في العالم الغربي للخطر.
-
خامساً: زيادة أسعار موارد الطاقة، بحيث يصبح انتعاش الاقتصاد العالمي على المحك.
على ما يبدوا ان قبرص استفادت من الظروف الجيوسياسية المذكورة أعلاه، وتعاونت مع إسرائيل في عام 2010، بالاتفاق على الاستغلال المشترك لمخزونات الطاقة المجاورة ‘Leviathan’ و ‘Venus’، و التي تقع ضمن الكتلة 12 من المسوحات القبرصية، حوض “بلاد الشام”، معتبرين إياهما منطقة موحدة ذات اهتمام مشترك للدولتين (انظر الشكل 5). في الوقت نفسه، أضفت قبرص الشرعية على هذا التعاون دوليًا من خلال التوقيع على اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع إسرائيل.
الشكل (رقم5) رواسب الطاقة القبرصية والإسرائيلية في جنوب شرق البحر المتوسط

في أعقاب تلك الاتفاقية، ساد اعتقاد بأن إسرائيل قد نظرت بجدية إلى اليونان وقبرص، كعقدة نقل الغاز إلى أوروبا (خط أنابيب شرق البحر المتوسط) الذي سيتم العثور عليه في المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها. قد يكون هذا صحيحًا لأن إسرائيل قدرت حينها، أن بناء البنى التحتية ذات الصلة يمكن أن يحصل على تمويل من أوروبا ولأن الطريق البديل، عبر تركيا، كان يبدو غير ممكن، على أساس أن تل أبيب تعتبره (وفقًا لما تم تسجيله حتى الآن) الأزمة الأخيرة نسبيًا في علاقاتها مع أنقرة ليست شيئًا مؤقتًا.
الشكل (رقم 6) مقترحات تحويل الغاز الطبيعي جنوب شرق المتوسط إلى الغرب

من ناحية أخرى، يبدو أن خيار نقل الغاز القبرصي-الإسرائيلي، إلى الغرب، عبر خط أنابيب مرتبط بخط الغاز العربي، ومن خلال الإسقاط إلى تركيا يبدو صعبًا في الوقت الحالي، بسبب المشكلات الأمنية المتزايدة لخط الأنابيب. وجدير بالإشارة أن خيار الحل الأرخص، أي بناء خط أنابيب من قبرص إلى تركيا، ثم إلى غرب ووسط أوروبا، هو محل خلاف سياسي، بسبب قبرص.
تم تأكيد منظور المشروع أعلاه من قبل رئيس المفوضية الأوروبية خلال مداولات المجلس في 22 مايو 2013، في السياق العام لتحديد أولويات الطاقة المستقبلية للاتحاد الأوروبي. حيث ان اعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة من دول عربية وإسلامية، تمر بمرحلة انتقالية سياسية وجغرافية استراتيجية شديدة الحساسية، وكذلك دولة مثل روسيا، تُظهر مستوى عالٍ من المنافسة الجيوستراتيجية ضد الثنائي (بريطانيا العظمى – الولايات المتحدة الأمريكية)، أجبر العالم الغربي، وخاصة الاتحاد الأوروبي، على الانتباه إلى الاحتياطيات الهيدروكربونية الواعدة لجمهورية قبرص وإسرائيل واليونان. على أي حال، ان نوع وعمق العلاقة الاستراتيجية التي ستطورها إسرائيل مع كلا من (قبرص – اليونان – الاتحاد الأوروبي)، سيعتمد الى حد كبير على القرار الذي ستتخذه إسرائيل بخصوص كيفية استغلال ودائعها الخاصة، و حجم الكميات التي ستصدر إلى أوروبا، وكيفية إجراء ذلك، إما عن طريق الغاز الطبيعي المسال (LNG) أو عبر خط الأنابيب. (انظر الشكل 6). بالإضافة إلى الأطراف الرئيسية قبرص – اليونان – تركيا – إسرائيل، هناك العديد من الأطراف الدولية المهتمة في المنطقة. وليس الثنائي الجيوسياسي الكلاسيكي، الولايات المتحدة وروسيا، إنما يجب ان يؤخذ الاتحاد الأوروبي على محمل الجد ايضاً. بالإضافة إلى ذلك، ان الاهتمام الدولي في رواسب الطاقة في جنوب شرق البحر المتوسط، لا يشمل البلدان المذكورة أعلاه فحسب، إنما يشمل ايضاً ( لبنان – مصر – سوريا – حلف شمال الأطلسي – الصين – المملكة المتحدة) وكذلك الدول الآسيوية والشرق أوسطية والأفريقية المنتجة للغاز الطبيعي.
ويُشار إلى تورط أهم شركات الطاقة في العالم، سواء لتطلعاتهم لجزء من العمل، أو لما تشكله رواسب الهيدروكربونات من تهديداً على مشاريعهم المخطط لها سلفاً.
ان المزيد من التطوير لمخزونات الطاقة الأخرى في المنطقة الأوسع، يتطلب إبرام سلسلة من الاتفاقات بين الدول بشأن تعيين حدود المناطق الاقتصادية البحرية ذات الصلة، ولكن في الوقت نفسه، فإن سلسلة من القضايا المتضاربة طويلة الأجل مثل ما يسمى بالمسألة القبرصية، ونزاع بحر إيجة، ومسألة الشرق الأوسط، كلها مسائل تجعل إمكانية التوصل إلى تسوية شاملة للمناطق البحرية منخفضة إلى حد ما.
إن العالم المعاصر مترابط بشكل جيد وهناك اتجاه واضح نحو العولمة الاقتصادية. ومن الواضح أن البحر الأبيض المتوسط وخاصة الجزء الشرقي منه يلعبان دورًا مهمًا في السياق الأوسع للعلاقات الدولية، وذلك نتيجة دوره الرئيسي في نظام المرور البحري المعاصر. وبطبيعة الحال، ان وجود مضيقان بحريان في تلك المنطقة (الدردنيل وإيجة) واتصالهما مع البحر الأسود، وكذلك قناة السويس المصرية، كلها أمور تعزز ذلك الاعتقاد السائد.
سبق الإشارة إلى أن ما يقرب من أربعة أخماس التجارة الدولية تتم عن طريق البحر وأن تكوين الأرض يسهل النقل البحري، لأن ثلاثة أرباع سطح الكوكب مغطى بالبحر أو البحيرات. ليس من قبيل المصادفة أن الأعداد الحالية لزيارات الموانئ في اليونان مرتفعة للغاية؛ يوجد في بحر إيجة العديد من الجزر التي تستفيد من الشحن من أجل الاتصال بالكتلة الأرضية الرئيسية للبلاد. علاوة على ذلك، فإن الجغرافيا فضلت اليونان، باعتبارها نقطة ربط بين ثلاث قارات مختلفة، فهي في موقع جيد جدًا لتكون مركزًا للتجارة الدولية. أخيرًا وليس آخرًا، تعد عضوية الدولة في الاتحاد الأوروبي أحد الأصول القيمة للغاية ويجب أن تهدف اليونان إلى التحول إلى نقطة دخول لجميع التجارة في أوروبا الشرقية المنقولة عن طريق البحر. ومع ذلك، هناك حاجة إلى المزيد من البنى التحتية، وبالتالي المزيد من المال.
من ناحية أخرى، يبدو أن اليونان، التي مرت بأزمة مالية، لديها القدرة على أن تكون مركزًا لتصدير الطاقة، بشكل رئيسي من خلال خط أنابيب TAP، وكذلك من خلال خطوط أنابيب أخرى. إن اعتماد اليونان في مجال الطاقة على النفط والغاز مرتفع، على الرغم من أنها استفادت من امتلاكها لناقلات نفط وغاز كبيرة.
جرى التركيز على الآثار الجيوسياسية للاكتشافات الأخيرة لاحتياطيات كبيرة من الطاقة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، حيث يمكن للاحتياطيات الهيدروكربونية المكتشفة أن تلعب دورًا مهمًا في تزويد الاتحاد الأوروبي بالغاز الطبيعي على المدى الطويل، ولهذا السبب يجب على الدول المجاورة لشرق المتوسط، وخاصة قبرص وإسرائيل واليونان وتركيا، أن تسعى لتعظيم دورها كموردين بديلين للاتحاد الأوروبي. وذلك سيحقق نتيجة مستقبلية متوقعة، ألا وهي توفير أول غاز غير روسي، لما يسمى بممر الطاقة في جنوب أوروبا، والذي يحقق فوائد كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بالتمويل الأوروبي لبناء خط أنابيب (خط أنابيب شرق البحر المتوسط)، والذي سينقل إلى أوروبا الوسطى والغربية بكميات كبيرة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن المشاريع الأخرى ذات الصلة.
إن القضية الرئيسية هي إمكانية استغلال موارد الطاقة بالقرب من قبرص من أجل أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي. الأبطال المهمون الآخرون على الساحة الدولية هم أيضًا جزء من المعادلة المعقدة، مع مكانة الناتو والاتحاد الأوروبي. لذلك، فإن الاستنتاج الأول الذي يجب استخلاصه هنا هو أن المواجهات والتغييرات الجيوسياسية في المنطقة ستستمر في المستقبل القريب. ومع ذلك، يرتبط بالبُعد الجيوسياسي هناك معيار أساسي آخر، وهو القانون الدولي للبحار. توفر اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الإطار الضروري لتحديد الحدود البحرية بين الدول المتجاورة، لأنها الوثيقة الأساسية للقانون الدولي التقليدي، الذي ينظم القضايا المتعلقة بإنشاء وترسيم الحدود. في الوقت الحالي، تظل مسألة ترسيم حدود المنطقة البحرية في جنوب شرق البحر المتوسط نقطة خلاف للعديد من الدول المشاركة فيها.
Source:
geopolitica magazine