صاحب الامتياز في حوارنا هو – الدكتور رومولوس هالدان، ضابط بدرجة أدميرال أسطول بالاحتياط في البحرية العسكرية الرومانية، حاصل على درجة الدكتوراة في العلوم العسكرية، صدرت له العديد من المؤلفات والبحوث الجيواستراتيجية البحرية، وهو متخصص في الشؤون الجيواستراتيجية والجيوسياسية البحرية. أنهى مؤخراً تأليف موسوعة جيواستراتيجية “معاهدة الأمن البحري” ضمت أكثر من 800 صفحة باللغة الرومانية، ويتم ترجمتها للغة الإنكليزية أيضاً، أعتبرها خبراء ومتخصصين في العلوم العسكرية والأمنية من بين أكثر الموسوعات الجيواستراتيجية المتخصصة أهمية و قيمة حيث أضافت الكثير لمكتبة العلوم العسكرية والأمنية البحرية.
في مسيرته المهنية الممتدة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، شغل خلالها الادميرال الدكتور رومولوس هالدان، عدة مناصب وظيفية وقيادية عسكرية رفيعة على مستوى الدولة الرومانية، من بينها شغل سابقاً، منصب نائب رئيس أركان القوات البحرية الرومانية، وكبير المفتشين للقوات البحرية في وزارة الدفاع. وشارك في العديد من المهام المشتركة ضمن إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأسود، وغيرها في مناطق أخرى.
جي فوكس: كمحلل عسكري واستراتيجي في المجال البحري العسكري، ما هي أهم التهديدات الجيواستراتيجية والجيوسياسية التي تواجه موانئ ومضايق الشرق الأوسط؟ وما هي الحلول الممكنة برأيكم؟
الأدميرال رومولوس هالدان: الموانئ والمضائق هي جزء مما نسميه “الممرات البحرية” وهي إلى حد بعيد عناصرها الأكثر حساسية. وإذا كانت “الموانئ “عناصر حساسة للنقطة، وهي ذات أهمية متغيرة، اعتمادًا على حجم الميناء وأهميته الاقتصادية والجيوسياسية والجيواستراتيجية المحلية أو الإقليمية، فإن “المضائق” هي عناصر ذات أهمية كبرى وتتجاوز خصوصية المنطقة وتصبح عناصر رئيسية في المعادلة الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية.
في الأدبيات المتخصصة، تعتبر المضائق “ممرات ضيقة”، ومن بين النقاط التسع الحرجة على مستوى العالم، توجد ثلاثة منها في الشرق الأوسط وهم: (مضيق باب المندب، مضيق هرمز، قناة السويس). والتعبير الأكثر بلاغة عن هذه “النقاط الحرجة” هو ما يسميه الاستراتيجيون العسكريون “يجب اجتياز النقاط”. إن أهم التهديدات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تواجه موانئ ومضائق الشرق الأوسط هي (الحرب والإرهاب).
فالإرهاب، سواء كان داخليًا أو خارجيًا أو مشتركًا، محدود في مساحة السطح، لكنه كبير من حيث التأثيرات على الأهداف المستهدفة وإمكانية تكرار الهجمات بمرور الوقت. على سبيل المثال، لا يتطلب غرق سفينة في قناة السويس مساحة أو بالأحرى حجمًا كبيرًا، لكن يمكن أن يعوق الملاحة لفترات طويلة من الزمن.
أما الحرب، خاصة عندما تشترك فيها قوات عسكرية من مناطق أخرى، بالإضافة إلى الدمار المادي الهائل، فالموانئ تكون أكثر عرضة للخطر، والأشد خطراً هو الخسائر الاقتصادية الفادحة الناجمة عن أعمال الحرب في البحر، مثل: (الحظر والحصار)، حيث ان اقتصادات الدول الواقعة بشكل مباشر أو غير مباشر، للحظر والحصار، تكون معرضة لخطر الانهيار، فحتى الكوارث البشرية والبيئية يمكن أن تكون أكثر محدودية من عواقب الإرهاب.
وإذا كان للحظر البحري آثار في اتجاه معين وظهرت كقاعدة عامة، قبل بدء الأعمال العسكرية، فالحصار يكون أكثر شمولاً مع آثار مدمرة ولمدة طويلة من الزمن.ورغم أنها ليست من العناصر الأساسية، ولكن من الضروري عدم تجاهل أعمال القرصنة والسطو المسلح في البحر، فتلك الاعمال لا تؤثر اقتصاديًا على الموانئ وحركة المرور عبر المضائق فحسب، إنما قد تحفز الإرهاب وتولد الحروب أيضاً.
وقد استخدمت في الأدبيات المتخصصة، وتناولته في العديد من المقالات المتخصصة، ومؤخرا في كتابي “معاهدة الأمن البحري” مصطلح “القرصنة في البحر” كمصطلح عام للقرصنة والسطو المسلح في البحر. وهو نفس الفعل، لكن تم تنفيذه في ولايات قضائية بحرية مختلفة (أعالي البحار – القرصنة والسلطات البحرية الوطنية – السطو المسلح في البحر).
يجب على دول الشرق الأوسط، معالجة قضية أمن طرق الاتصالات البحرية في المنطقة، بشكل موحد ومشترك بين تلك الدول، ولاسيما من خلال مكافحة كافة أنواع الإرهاب، بما في ذلك المتولد لأسباب دينية، وخاصة عن طريق تجنب الحرب. ان أهمية تحقيق هذا الأمر، يتطلب القول ان بغض النظر عما إذا كان بإمكان تلك الدول الوصول إلى المحيط الكوكبي، وبغض النظر عن الاختلافات لديها، لكنها مسألة حساسة للغاية. ودعوني أقول، أن الثروة في زمن السلم أفضل من الثروة في زمن الحرب، فالحرب لا تجلب الثروة لأحد ولا حتى لمن ربحها.
جي فوكس: ما هي الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي لديها أساطيل تجارية وعسكرية قادرة على ضمان أمن طرق التجارة البحرية؟
أدميرال هالدان: ليس من السهل إعطاء إجابة واضحة على هذا السؤال. يمكنني التعبير عن رأيي الخاص، ولكن بالتأكيد، في حين أن البعض قد يتفق معي، يعبر البعض الآخر عن آراء أخرى، ويضع معايير أخرى للتحليل، ويطور تسلسل هرمي آخر. وهذا ليس سيئا! لذلك، سأحاول التعبير عن رأيي فقط، وليس مجموع أو مجموعة من الآراء المماثلة، التي تعتبر الأغلبية. عند تحليل الموضوع الذي طرحه سؤالك، يجب أن نبدأ من كيفية قيام كل دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتأسيس مصالحها الوطنية في المجال البحري، وكيف يتم تجسيدها، وبالطبع كيف تروج لها وتدعمها. وخاصة كيف يتم الدفاع عنها، وهنا لدينا الحالات التالية:
-
قوى بحرية عظمى، تقوم بدعم وترويج والدفاع عن مصالحها على مستوى المحيط الكوكبي بأكمله.
-
قوى بحرية “نطاقية”، تعزز مصالحها الوطنية إقليمياً ودولياً، ولكن لا يمكنها دعم مصالحها والدفاع عنها إلا في منطقة معينة فقط.
-
قوى بحرية وطنية، تعزز مصالحها الوطنية في مناطق سلطتها البحرية، وفي بعض الأحيان، تقوم بذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي أيضاً، ولكن بشكل محدود للغاية.
-
دول ليست قوى بحرية – أي ليس لديها أسطول عسكري ولا أسطول تجاري، يقوم بأنشطتها الاقتصادية الصغيرة (مثل الصيد التقليدي)، ضمن حدود السلطات البحرية الوطنية (عادة فقط ضمن الحدود الإقليمية للمياه)، وضمان الحد الأدنى من الأمن البحري من خلال عناصر شرطة الحدود وعناصر السلطة البحرية الوطنية.
وبغض النظر عن حجم أسطولك التجاري، إذا لم يكن لديك أسطول عسكري بالحجم والتنظيم المناسبين (بما في ذلك سفن شرطة الحدود / خفر السواحل، مع الاخذ بنظر الاعتبار خصوصيات كل بلد والهياكل البحرية العسكرية الأخرى)، و مزوداً بموارد مناسبة لتحقيق المصالح البحرية الخاصة، و ضمان أمن الطرق التجارية البحرية،عملياً، من دون ذلك، لا يمكنك التحدث عن أمن طرق الاتصال. وأما سلامة تلك الطرق فهو تأثير التدابير الأمنية الصحيحة.
وفي مؤلفي الذي أشرت إليه سابقاً “معاهدة الأمن البحري”، تم تناول موضوع الأمن في المجال البحري بالتفصيل، وفي أكثر من 800 صفحة لأن الموضوع واسع ومعقد للغاية بحيث لا يمكن تغطيته في بضع جمل.
في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ليس لدينا دول يمكن ترشيحها كقوى بحرية كبرى، لكن لدينا قوة بحرية إقليمية، تركيا، وثلاث قوى بحرية إقليمية في طور التكوين، مصر، والتي بالإضافة إلى الأسطول التجاري، تعمل بالفعل على تطوير قوة بحرية كبيرة. لديها أسطولان عسكريان في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر على التوالي مع أربع قواعد بحرية. تجري عملية تحديث الأساطيل وتجهيزها بسفن عالية الأداء، مثل سفينة مشروع ميسترال، على قدم وساق وستضع مصر كقوة بحرية إقليمية.
وإذا استقر الوضع في ليبيا، فمن المؤكد أنها ستبني قوة بحرية يكون بإمكانها التحالف مع مصر، وتشكيل قوة بحرية محددة في جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط. كما إن العمل البحري المشترك من قبل هذين البلدين مع تركيا (رغم انه غير مرجح في هذه المرحلة)، ولكن من شأنه مستقبلاً إذا حصل، تغير المعادلة الجيوسياسية والجيواستراتيجية بشكل كبير في جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط.
علاوة على ذلك، فإن العمل المشترك للدول الثلاث مع الاتحاد الروسي سيغير جذريًا المعادلة الجيوسياسية والجيواستراتيجية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مما يزيل (الناتو) عمليًا من المعادلة، ويُسهل سيطرة الاتحاد الروسي على البحر الأبيض المتوسط وخروجه مع أسطول في المحيط الأطلسي، من أجل إعادة التموضع الاستراتيجي الذي كانت تسعى إليه موسكو منذ فترة طويلة. وبقراءة بسيطة ومتأنية للعقيدة البحرية للاتحاد الروسي ستظهر أن تقديراتي لم يكن مصادفة على الإطلاق.
من جهتها، المملكة العربية السعودية، تتجه نحو وضع قوة بحرية إقليمية أيضاً، بأسطولين وقاعدتين بحريتين رئيسيتين في الخليج العربي والبحر الأحمر، ولإحكام السيطرة على ممرات الاتصال البحرية في المنطقتين، لا يزال لديها قوات بحرية غير كافية. ولكن يمكنها الاستفادة من دعم بعض الامارات في المنطقة، بشكل محدود للغاية من حيث القوة البحرية وكمجال للعمل. فضلاً عن ان المشاكل بين السعودية وإيران تهدد أمن المنطقة وتفكك النهج الموحد لأمنها، لأن إيران تمتلك قوة بحرية تميل إلى التطور إقليميًا، لا سيما من حيث عدد السفن وأقل من حيث قوتها القتالية، ومن الواضح أنها تتلقى دعماً قوياً من روسيا. كما أن إيران تتمتع بهدوء نسبي في بحر قزوين بفضل علاقاتها الجيدة مع الاتحاد الروسي، على وجه الخصوص، مما يجعل ثقل المخاوف في تطوير القوات البحرية تتركز في منطقة الخليج العربي وخليج عُمان.
ان إيجاد حالة استقرار إيجابية للعلاقات بين دول المنطقة، وخاصة بين السعودية وإيران، سيكون عامل حاسم لتحقيق أمن الاتصالات البحرية في منطقة الخليج العربي وخليج عُمان، والقضاء على موردي انعدام الأمن: (الحرب والإرهاب). علاوة على ذلك، ستكون السعودية قادرة على تحويل مركز ثقل أعمالها لتأمين الاتصالات البحرية من المنطقة الغربية، إلى البحر الأحمر، خاصة وأن علاقاتها جيدة مع مصر.
يتشكل مستقبل العالم العربي، الذي يشمل شمال إفريقيا وجزءًا كبيرًا من الشرق الأوسط، من خلال تطور العلاقات بين دول المنطقة والقضاء على احتمالات الحرب. وكذلك يمكن أن يؤدي العمل المنسق بين هذه الدول، ولا سيما قواتها البحرية، إلى خلق ظروف أمنية مواتية في ولاياتها القضائية البحرية، وحتى أبعد من ذلك، والتي تحدد الحالة المثلى لأمن الاتصالات البحرية في هذه المناطق.
ورأيي، ان تحقيق ذلك ممكن إذا تم التخلي عن نزعة الهيمنة لـ “الأخ الأكبر” و “الأول بين أنداد”، والنزاعات الدينية التي يجب أن تكون في الواقع من اختصاص رجال الدين، وليس الدول، والعديد من الصداقات الخارجية غير المنتجة. فأنا مقتنع بأن العالم العربي يمكن أن يصبح “واحة سلام”. ولذلك يجب على السياسيين قراءة الكتب المقدسة بعناية أكبر، وعدم تفسيرها حسب رغباتهم.
أما بقية الدول العربية الأخرى في مناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ليس لديها قوات بحرية إلا لتأمين خطوط الاتصال في الولايات البحرية الوطنية، وخاصة في المياه الإقليمية والمنطقة المتاخمة والمحدودة أو المحدودة للغاية، في منطقتهم الاقتصادية الخالصة.
وتجدر الإشارة بالتذكير إلى أنه على الرغم من أن الأساطيل التجارية هي مكونات أساسية للقوة البحرية للدول، فضلاً عن العناصر المكونة الأخرى، فإن العنصر المحدد يظل القوة البحرية (بما في ذلك هياكل خفر السواحل وتلك التابعة للسلطات البحرية المدنية).
جي فوكس: ماهي السيناريوهات المتوقعة من قبلكم، في حالة المظاهر غير المتكافئة واحتمال اندلاع صراع عسكري بين إيران وإسرائيل؟ وما هي الآثار التي يمكن أن تحدثها هذه المظاهر على المضائق والممرات البحرية في الشرق الأوسط؟
أدميرال هالدان: أنا من القلائل الذين لا يؤمنون بنزاع عسكري بين إسرائيل وإيران، لأنه لا إسرائيل ولا إيران لديهما مصلحة في الانخراط في نزاع مسلح، كما يعلمون، سيؤدي إلى تدمير أحدهما الاخر. ولكن يحاول كل منهم وضع نفسه في المعادلة الجيوسياسية والجيواستراتيجية للمنطقة.
وبينما تقول إسرائيل أنها تحارب إرهاب الدولة الإسلامية من أجل البقاء كدولة والدفاع عن العالم من هذه الآفة”، فإن إيران، هي الأخرى تقول، أنها تقاتل وتريد إنقاذ العالم الإسلامي من الخطر الذي تشكله دولة إسرائيل المعتدية!. وبرأيي، ان ذلك غير صحيح، فكلاهما يصنع ذرائعه الخاصة لتوظيفها في الحصول على مواقع جيوسياسية وجيواستراتيجية.
دعونا نفترض أن إسرائيل تهاجم وتدمر إيران. فماذا ستختار؟ مع عدم وجود أي شيء آخر سوى استجابة هائلة من الدول الإسلامية في المنطقة، والتي لن تنتظر لتصبح الهدف التالي بعد إيران. وهذا يعني، وقبل كل شيء، صراعًا واسع النطاق وطويل الأمد لا تستطيع إسرائيل تحمله، حتى مع المساعدات الخارجية.
ودعونا نفترض الان، ان إيران تدمر إسرائيل، سيكون لدينا نفس السؤال؟ فماذا ستختار؟، والإجابة بكل تأكيد: حرب واسعة النطاق وطويلة الأمد، تشمل حلفاء إسرائيل التقليديين، ولا تملك طهران الموارد اللازمة لها، حتى لو قدم لها دعم روسي، رغم ان الروس في كلتا الحالتين، لن يتدخلوا بشكل مباشر، وسينتظرون الفرص فقط.
أكثر السيناريوهات منطقية، هي الصراعات غير المتكافئة، والتي يصعب للغاية مواجهتها، وقبل كل شيء، تحديد هويتها. وتتجلى هذه في جميع أشكالها الان وفي المستقبل، بكثافة أكبر أو أقل، اعتمادًا على الخطط والممارسات الجيوسياسية والجيواستراتيجية للجهات الفاعلة ذات المصالح في المنطقة.
وعلى الرغم من ان السلام يعني الازدهار، يجب علينا أن نفهم أنه، في الوقت نفسه، إن “النزاعات” في المنطقة بالنسبة للآخرين تعني الازدهار والفرص الجديدة.
فعلى سبيل المثال، سيُجبر الحصار الكامل المفروض على إيران نقل النفط عبر الطرق البرية، وذلك سيكون مفيد لأولئك الذين يمتلكون هذه الطرق، وبالطبع البنية التحتية المحددة.
وفي مثال آخر: صراع واسع النطاق بين إسرائيل والعالم العربي سيؤدي حتما إلى منع إسرائيل من الوصول إلى طرق الاتصالات البحرية، وكذلك منعها من استغلال موارد الغاز في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بأكمله مع ميناء إيلات.
ونتيجة لذلك، فالحل العقلاني الوحيد هو السلام وفهم أن الحياة هي حق للجميع. لكن الطبيعة البشرية متناقضة ولن تتغير على الإطلاق. المهم هو تجنب الخلافات قدر الإمكان، وأن الرغبة في الهيمنة مجرد نهج أحمق وعديم الجدوى، “لا أحد يبقى إلى الأبد، ولا شيء يدوم إلى الأبد”.
تتأثر الممرات البحرية وعناصرها المهمة، بشكل خاص، المضائق، بأي شكل من أشكال الصراع، متماثل أو غير متماثل. المضيقان اللذان رشحتهما عمليًا لا يمكن إغلاقهما، لكنهما يمكن أن يصبحا خطرين من وجهة نظر الملاحة، كما أن إغلاق قناة السويس سيكون عملاً غير مسؤول، لأنه سيؤدي أيضًا إلى انتقام الدول الأخرى، الذين يرون ان مصالحهم، وخاصة الاقتصادية والعسكرية، معرضة للخطر وأن أرباحهم الاقتصادية تتضاءل، وعادة هم يتمتعون بقوة اقتصادية وعسكرية ملموسة.
وتظل الموانئ هي أضعف عناصر الطرق البحرية، وبالتالي يتم استهدافها كأولوية في حالة وجود صراعات متماثلة أو غير متكافئة.
يتمثل أحد الحلول القابلة للتطبيق في حماية جميع “نقاط الاختناق” بموجب القانون، على غرار اتفاقية مونترو لعام 1936، وأحكام اتفاقية “مونتيغو باي” لقانون البحار (UNCLOS) لعام 1982. وهنا الحديث عن الدول المتشاطئة، وما يجب عليها القيام به لتجنب الصراعات، حيث يجب على جميع الدول المعنية الذهاب لخيار عقد الاتفاقيات المشتركة والالتزام بما يوقعون عليه بدقة واحترام، وكذلك إزالة العناصر المثيرة للنزاعات، والتي هي ليست من المنطقة أصلا، ولا علاقة لها بمصالح دول المنطقة.
جي فوكس: عقد الرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء زيارته للشرق الأوسط، سلسلة لقاءات مع القادة العرب والإسرائيليين، وأكد الرئيس بايدن خلال هذه المناقشات، أن الولايات المتحدة لن تترك مكانًا فارغًا في المنطقة للصين وروسيا. كيف تعلق على موقف الرئيس الامريكي من وجهة نظر إزاء مظاهر القوة البحرية في المنطقة؟
أدميرال هالدان: موقف بايدن هو تعبير عن المصالح الأمريكية وخيار الولايات المتحدة الجيوسياسي والجيواستراتيجي ولا شيء آخر. فالشرق الأوسط، طالما أنه يولد الصراع، فهو تحت رحمة الولايات المتحدة التي تلعب دور النسر المتنكّر بزي حمامة السلام، ولكن بثمن. وظهور منافسين آخرين للعب هذا الدور، ولكن بقدر أقل من العنف والجشع، يخلق منافسة قوية للفصل في هذا الدور، وتحاول الولايات المتحدة الهروب من المنافسة، من خلال إقناع الدول المستهدفة بوجهة نظر جيوسياسية وجيوستراتيجية خاصة، وحجج مُقنِعة انتخابيا أكثر منها دبلوماسياً.
دول المنطقة لا تريد “شركاء استراتيجيين”، لكن العلاقات غير المستقرة بينها والصراعات المشتعلة، تجعل كل واحدة منهم تبحث عن “أخ أكبر” يمكنه أن يضمن لها الأمن، وهذا يكون مُكلف بالطبع!.
لا يتنافس الاتحاد الروسي والصين مع الولايات المتحدة فحسب، بل يتنافسان مع بعضهما البعض، وهذه المنافسة قائمة على قدم وساق في الشرق الأوسط أيضاً.
وفي واقع الأمر، أنهم في منافسة غير عدوانية، بسبب ان الولايات المتحدة الأمريكية، هي خصمهم المشترك. وسيتعاونون معًا حتى يزيلوا الولايات المتحدة من موقع (زعامة العالم)، ويحدوا من مجال مناورتها: اقتصاديا، عسكريا، دبلوماسيا، علميا، وما إلى ذلك. ثم بعد ذلك تبدأ المنافسة بينهما بكل تأكيد. ومن غير المؤكد كيف ستتطور هذه المنافسة، ولكنها قد تتخذ شكلاً أنيقًا، مثل: “نتصادم، لكننا لا نضرب”، وليس التصعيد إلى منافسة شديدة العدوانية، مثل “أنا أو أنت”.
أما دول المنطقة ( الشرق الاوسط وشمال افريقيا)، وحتى تكون الفائز في الخلافات بين الدول الكبرى، لديها فرصة واحدة فقط، وهي تفترض ما يلي:
-
اتباع نهج موحد ومتوازن للوضع الجيوسياسي والجيواستراتيجي والجيواقتصادي للمنطقة، ويتم تنظيمه من خلال اتفاق مشترك.
-
اعتماد نهج واحد في القضايا الأمنية المشتركة، بما في ذلك أمن الاتصالات البحرية، واستبعاد مشاركة قوى أخرى من خارج دول المنطقة.
-
معاملة الدول الثلاث (الولايات المتحدة، روسيا الاتحادية، الصين) على قدم المساواة ومتابعة الوجود المتوازن في الأنشطة الاقتصادية في المنطقة، وتجنب الوجود العسكري قدر الإمكان.
الوضع الأكثر سوءًا هو الوضع الحالي، عندما يكون لكل دولة في الشرق الأوسط “أخ أكبر”، لأن التنافس بين القوى العظمى يؤدي تلقائيًا إلى صراعات بين الدول التي يسيطر عليها هؤلاء، والرابحون الوحيدون هم “الإخوة الكبار”، وليس أطراف النزاع.
كجانب من جوانب القوة البحرية، في الأساس، تريد الولايات المتحدة الحفاظ على مكانتها باعتبارها القوة البحرية العظمى الوحيدة، وهذا يعني وجودها على المحيط الكوكبي بأكمله. ولهذا فهي تبذل جهوداً على جميع الجبهات والمستويات، بما في ذلك الجبهات الدبلوماسية.
كما ان الصين والاتحاد الروسي، في هذه اللحظة، يشكل كل منهم قوة بحرية كبيرة بشكل فردي، ولكن، بشكل فردي أيضاً، لا يمكنهما ضمان وجودهما على المحيط الكوكبي بأكمله، والحل في الوقت الحالي هو العمل المشترك. وكما قلنا سابقاً، هم يفعلون ذلك الان. وفي هذا الصدد، أرى، إن الصين والاتحاد الروسي، وبعد إزاحتهما للولايات المتحدة الأمريكية من موقع القوة البحرية العظمى الوحيدة في المحيط الكوكبي بأكمله، ودخولهما في منافسة، تطرقت على ذكرها سابقاً، ولكن لتجنبهما الصراع، سوف يقومون بتقسيم مناطق نفوذهما في المحيط الكوكبي، من خلال وضع قواعد وشروط وحدود للمناطق. وثلاثة من هذه القواعد ستكون إلزامية وضرورية لتجنب التضارب الذي قد يحدث، وهي على الشكل التالي:
-
يمكن لكل منهما الإبحار بحرية في منطقة الآخر، بما في ذلك السفن العسكرية، والاستفادة من الحماية الكاملة.
-
لن يقوم أي من الطرفين ببناء أو استخدام قواعد بحرية ولن يضع معدات عسكرية في منطقة الطرف الآخر، ولن يشرع في التعاون في المجال العسكري مع الدول في تلك المنطقة.
-
إجراء تمارين مشتركة دورية في مجالي النفوذ كدلالة على الثقة الكاملة.
وفي الوقت الحاضر، لدينا أمثلة عملية على ذلك، في منطقة القطب الشمالي، وبينما يهيمن الاتحاد الروسي في المنطقة، نجد ان القوات البحرية الصينية تبحر دون عوائق، وتجري تدريبات مع القوات البحرية الروسية، وفي منطقة جنوب المحيط الهادئ والمحيط الهندي، حيث تهيمن الصين، تبحر السفن العسكرية الروسية دون عوائق وتجري تدريبات مع السفن العسكرية الصينية.
“وسواء كنت على حق أم لا، فإن قادم الأيام في المستقبل سيُبين لنا ذلك الأمر”.
جي فوكس: في سياق غزو روسيا لأوكرانيا، حدثت تغييرات جغرافية استراتيجية وجيوسياسية واسعة النطاق. ما هي آثار هذا الصراع على أمن واستقرار الممرات والمضائق البحرية، خاصة أنها تعتبر ممرات رئيسية لنقل النفط والغاز الطبيعي والحبوب إلى الدول المستوردة؟.
أدميرال هالدان: دخل البحر الأسود عقب أحداث هذا العام منطقة “عجز أمني”. من الناحية العملية، لا يزال الإبحار آمنًا في البحر الأسود بأكمله، باستثناء الولايات القضائية البحرية الأوكرانية، وذلك لأن الاتحاد الروسي لا ينوي الدخول في صراع مع الدول الأخرى التي لديها منفذ إلى البحر الأسود، على هذا النحو من شأن النزاع أن يعقد الوضع في الاتحاد الروسي بشكل كبير. على أي حال، فإن الوضع الحالي يناسب الاتحاد الروسي، الذي يتمتع بحرية تامة للمناورة. وبالمناسبة، فإن تركيا تطبق أحكام اتفاقية مونترو لعام 1936، فيما يتعلق بنظام مضيق البوسفور والدردنيل، ولا تخشى التدخل بواسطة قوى من خارج البحر الأسود.
وأرى في ذلك الموقف التركي، موقفًا حكيمًا، إذ أن تركيا تتجنب موقفًا من شأنه أن يؤدي إلى حصار هذه المضائق، إما من قبل الاتحاد الروسي أو من قبل القوى الأخرى التي قد تتورط في الصراع.
من ناحية أخرى، أدى التعدين الفوضوي الذي قام به الأوكرانيون إلى خلق خطر على سلامة الملاحة في مناطقها القضائية البحرية، وخاصة في منطقة (ميكولايف – أوديسا)، وعلى مصبات نهر الدانوب، فالألغام المنبعثة من السدود أصبحت بالفعل حقيقة واقعة، تحملها التيارات المائية خاصة نحو سواحل رومانيا وبلغاريا، مما يوسع منطقة الخطر وانعدام الأمن البحري.
وتلك الالغام البحرية التي استخدمها الأوكرانيين هي من إنتاج سوفييتي سابق، وهناك بالتأكيد مثل هذه الالغام في مستودعات القرم التي استولى عليها الروس. لذلك من الممكن أن يقوم الروس بإطلاق الألغام بأنفسهم عبر الغواصات السبع في قاعدة نوفوروسيسك البحرية، وبعد ذلك سيتهمون الأوكرانيين. فهناك جانب آخر مهم للغاية، لم يلاحظه أحد، وهو السهولة التي وافق بها الاتحاد الروسي على تصدير الحبوب من أوكرانيا، وخاصة عبر ميناء أوديسا. على ما يبدو أن روسيا رضخت لأسباب إنسانية وبسبب الإصرار الدبلوماسي من تركيا والأمم المتحدة.
وعلى الرغم من ان قوانين الحرب لا تسمح بالعاطفة، ولكن في رأيي ان المواقف التالية ممكنة الحدوث:
-
قبول روسيا بذلك مقابل الحصول على بعض الامتيازات.
-
الروس يُظهرون حسن نوايا للعالم، ولكن في حقيقة الامر، يخلقون حوادث على طرق الاتصالات البحرية التي تسافر عليها سفن نقل الحبوب بواسطة إطلاق الألغام البحرية، مما يجعل طرق الاتصال ونشاط النقل غير صالح للعمل، وبالتالي اتهام أوكرانيا بإطلاق الألغام البحرية.
-
أن يحدد الاتحاد الروسي ممرات الوصول من وإلى الموانئ الأوكرانية، وبعد ذلك الدخول اليها وضرب الموانئ والأهداف العسكرية أو المدنية الأخرى المجاورة، أو حتى إطلاق عملية برمائية بالتزامن مع هبوط جوي وهجمات على الاتجاهات البرية.
Comments 1